بسم الله الرحمن الرحيم
نحن المسلمين نعتقد اعتقادا جازما بأن الله سبحانه وتعالى هو خالقنا ورازقنا ومحيينا ومميتنا ومحاسبنا على أعمالنا ومُجزينا عليها،وعلى هُدى هذه الحقائق أمرنا أن نضرب في الأرض ونعمرها ونتخذ العمل الصالح فيها قنطرة إلى الدار الآخرة،وأن ننسج علاقات الحوار وحسن الجوار مع الخاص والعام،مع الموافق والمخالف،والمسلم مدعو إلى تذكر تلك الحقائق في كل يوم حتى تتحد وجهته،وتغدو كل حركاته خادمة للهم الأخروي بشكل لا يؤدي إلى الانزواء أو الانعزال أو إحداث قطيعة مع المجتمع أو إبداء وجه الكآبة والاكفهرار لعباد الله،فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو الذي يلقى إليه القول الثقيل- بشره في وجهه وحزنه في قلبه، إنها حقائق الموت والبعث والحساب تدعونا آيات الكتاب العزيز إلى التأمل فيها لنمسك بخيوط المعنى والمغزى والعبرة المتمحورة حول حكمة إسلامية تقول:الموت بداية الحياة،ولله ذر الإمام علي كرم الله وجهه الذي قال:"نسيان الموت صدأ القلب"،وقال أحد المفكرين:"هناك أسباب مختلفة لاحتقار الحياة،ولكن ليس ثمة مبرر لاحتقار الموت"،لنتأمل الآيات:
- "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون"[1]
- " كل شيء هالك إلا وجهه وإليه ترجعون"[2]
- " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله"[3]
- "أفحسبتم أنما خلقناكم وأنكم إلينا لا ترجعون"[4]
- " إن إلى ربك الرجعى"[5]
- "إنا لله وإنا إليه راجعون"[6]
ثم النهوض بعد رقدة الموت لأجل الحشر والحساب:
- "ثم إنكم يوم القيامة تبعثون"[7]
- "ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون"[8]
- "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله"[9]
- "وقفوهم إنهم مسؤولون"[10]
- "اليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب"[11]
- "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خرذل أتينا بها وكفى بنا حاسبين"[12]
مزالق التشتت
فكيف السبيل إلى "خطة تربوية عملية" بمقتضاها لا تصرفنا واجبات التحرك السياسي، والتكوين الفكري، والتفرغ التنظيمي عن التهمم بمصيرنا الأخروي،حتى لا نتشتت على سطح الأحداث،ولا نتفرق في أودية الغفلة،فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له »[13]،ومن فرَّق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه يفرق الجماعات،ويفتعل الخصومات،ولا حد لنهمه إلى السلطة والمال والجاه ،ويستميت في الدفاع عن امتيازاته،وقد يكون ممن يتعيشون بالدين ويطلبون الدنيا به،ويَنصِبون باسمه على الناس،وقد تجده مهووسا بالسياسة والحركة،لا يذكر الله إلا قليلا،لا أخلاقيات لديه في تدبير الاختلاف،يتنابز بالألقاب،يلقي بالتهم جزافا،يغير من مواقفه بشكل دائم وزئبقي لأنه تضخمت لديه الاهتمامات السياسوية،لا بوصله موجهة،لا منهاج كلي جامع ،ولذلك فإن جماعة "العدل والإحسان" تبتغي من وراء خطتها العملية للسلوك والتربية تكوين رجال ونساء يتصفون بعمق الإيمان ومتانة الخلق والدراية والقدرة على الإنجاز، وتحرص على"ألا تكون السمة الغالبة عليهم زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر، ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة"[14]لأن" إسلام الزهادة والهروب من المجتمع، والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق"[15]،ويتصور الكثير ممن يقيمون أداء "العدل والإحسان" من المراقبين والباحثين أنه يستحيل الجمع بين العمل الدنيوي الزمني والتشوف للآخرة،لأن العمل السياسي مثلا يقوم- في نظرهم- على المصالح المتقلبة،وقد يحتاج إلى ذرائعية ميكيافيلية تبرر الكذب وتزوير الحقائق وترويج الشائعات عن الخصوم والضحك على الذقون،فإذا نظر أولئك المراقبون والباحثون إلى كثرة حديث "العدل والإحسان" عن"الملك العاض"و"الملك الجبري"و"الاستبداد والفساد" وإلى مشاركاتها في الوقفات والمسيرات والمظاهرات حسبوها مهووسة بالسلطة،وإذا نظروا إلى حديثها عن التربية والإحسان والترقي في درجات الإيمان حسبوها جماعة صوفية تتفيأ ظلال الكرامات والأحوال والمقامات،بينما الأمر يتعلق بضابط مهم من ضوابط "الخطة العملية" للسلوك والتربية وهو ضابط"توازن التربية" بما يفضي إلى تربية متوازنة وهي" تلك التربية الإيمانية التي لا تقصر بالمؤمن عن درجة المجاهدين ولا تجعله من غثاء الحركية الجوفاء الخالية من لب الإحسان"[16](والجماعة لا تختزل معنى الجهاد في القتال كما يفعل الكثير من جهاديي اليوم)،ويصيب المرء العجب،وتتملكه الحيرة في اختيار الطريقة التي تستطيع"العدل والإحسان" أن ترضي بها المتحاملين عليها؛فإن هي انخرطت في الحركية العامة للمجتمع اتهمت باستعراض العضلات،وإن هي انكبت على رص صفها الداخلي والتنظيمي قيل إنها تعاني من العزلة والانكماش .
سياق الخطة ومفاصلها
إنها خطة لا تأتي في سياق التبشير بالدين من جديد فالناس كلهم مسلمون والحمد لله،بإسلامييهم وعلمانييهم وأمازيغييهم ويسارييهم على تفاوت بينهم في تمثل وتطبيق مقتضياته،وإنه لمن المعيب أن يدعي أحد احتكار المرجعية الإسلامية،كما هو معيب تحويل منظومة قيم هذه المرجعية إلى ساحة مستباحة تُفرِّغها- تحت دعاوي الاجتهاد- من مضامينها بدون حيازة ولو شرط واحد من شروط الاجتهاد،أو إخضاعها لمنطق النسبية المتطرفة(لا أحد يمتلك الحقيقة) بحيث ننهض يوما لنبحث عما يمكن أن ندافع عنه فلا نجد شيئا،وكم هو عقيم ذلك الفهم الذي يتصور أن الناس كلهم سقطوا في مهاوي الشرك فيتضخم الجدل حول العقيدة والتوحيد،ويتم اللجوء إلى مسالك التعسير والتنفير وتوزيع أحكام التبديع والتكفير،إنما تأتي الخطة في سياق التجديد والإصلاح،تجديد الإيمان في القلوب، وإصلاح ينفي عن الدين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
تنبني خطة"العدل والإحسان" على حديث عظيم من أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو حديث "شعب الإيمان" الذي رواه الشيخان وأحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة- عند البخاري وأحمد بضع وستون- فأعلاها- في رواية أحمد فأرفعها وأعلاها- قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان".فتُمثل هذه الشعب نهر إيمان المؤمن،و" يمثل نهر الإيمان مجموع السلوك الإيماني في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية"[17]، و"شُعب الإيمان بعددها الواسع وشمولها للعقيدة والعاطفة والحركة، وكل السلوك، هي المضمون الذي يتجسد فيه الإيمان طريقا إلى الله وحلا لمشاكل المجتمع والأمة، ومنهاجا للحكم، وتنمية، وسياسة،فنهر الإيمان بشعبه يمثل وحدة سلوك تكسر الحواجز، حواجز الأنانيات، والعادات، وسائر الحدود النفسية، والاجتماعية، والسياسية، والمصلحية"[18].
ولقد جمع الأستاذ عبد السلام ياسين تلك الشُّعب في عشر مجموعات سماها خصالا،فهي خصال عشر" تحت كل منها عدة شعب من شعب الإيمان-منهاج تربية، وتنظيم، وحكم، وسلوك إلى الله. تشمل كل الفرض والنفل والسنة والندب"[19]،وتشكل-بحسبه- الخطى العشر للتربية والسلوك،
الخطوة الأولى:الصحبة والجماعة
أسبقية العامل الاجتماعي
تأثير البيئة حاسم في مسألة السلوك والتربية،وإلى هذا المعنى ينظر الحديث المشهور:"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"،ولذلك سبَّق الأستاذ عبد السلام ياسين الكلام عن هذه الخطوة على الكلام عن أفضلية الذكر والكلمة الطيبة(لاإله إلا الله) كما قد يقتضيه ظاهر حديث شعب الإيمان السالف الذكر،فما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح،ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الأنبياء سببا في هداية الخلق،ثم وكل الأمر بعدهم للعلماء بمقتضى حديث"العلماء ورثة الأنبياء"،هؤلاء العلماء في قضية التربية والسلوك لا يمارسون "وساطة كاثوليكية" وينزلهم ابن تيمية رحمه الله منزلة أئمة الصلاة فيقول:"والشيوخ الذين يُقتدى بهم يدلون عليه (أي على الله جل جلاله)، ويرشدون إليه، بمنزلة الأئمة في الصلاة(...)، وبمنزلة الدليل الذي للحاج، يدلهم على البيت وهو وَهُمْ جميعا يحجون إلى البيت، ليس لهم من الإلهية نصيب، بل من جعل لهم شيئا من ذلك فهو من جنس اليهود والنصارى الذين قال الله في حقهم: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) (سورة التوبة، الآية: 31)"[20].
في السلوك والتربية لا بد من مرجعية بشرية تُرشد وتُوجه،وإن من الأسباب التي تفضي إلى الانحراف غياب هذه المرجعية،وليقرأ من شاء قوله تعالى"من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا"[21] ،وحتى في التدبير الحزبي والتنظيمي في العالم كله جرت العادة بأن يُعهد بمسؤولية التثقيف الأيديولوجي،ورئاسة لجان الأخلاقيات إلى الأشخاص ذوي السابقة والغَناء في النضال الحزبي،وذوي الاستيعاب الواسع لفلسفة النظر والعمل،فما قال أحد أن هذا نوع من التقديس للأشخاص،إلا أن هذا النعت اذخره البعض لقيادة"العدل والإحسان" فقط فقالوا:"إن الجماعة ترفع قدر مرشدها إلى حد التقديس"،والكل يعرف ما هي "المقدسات" الوهمية الشِّرْكية التي كبلت المغرب وأعاقت حركته عن اللحاق بركب التحرر والتقدم والتطور والديموقراطية.
هل المطلوب هو أن تسيء الحركة الإسلامية الأدب مع علمائها وصلحائها، وتُظهر جفافا في العواطف نحوهم خشية أن تتهم بتقديس الأشخاص، أو تتحلى بالأدب النبوي الذي دعاها إلى إحاطتهم بالاحترام والتبجيل والتقدير وطلب الدعاء منهم؟ متى يحق لنا أن نقول:إن فردا أو جماعة أو تنظيما يقدس الأشخاص؟
يحق لنا ذلك في الحالات التالية:
1. اعتقاد الإلهية في بشر من البشر وهذا كفر يخرج صاحبه من الملة.
2. اعتقاد عصمة أحد من الناس بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذه بدعة.
3. إقرار أحد ما على منكر وهذا نفاق.
وما سوى ذلك من الاقتداء بالعلماء الحقيقيين وإلقاء زمام القيادة السياسية والتربوية إليهم عن جدارة واستحقاق حق ما على الحركة الإسلامية أن تخجل منه،وإلا ستُخْلي الساحة لصراع "الأقران" "المثقفين" و"المفكرين" و"الحركيين"،ولعل الضيق بذلك الصراع أدى بزمرة من المنتمين إلى بعض التنظيمات الإسلامية التي تضخمت لديها الممارسة السياسية إلى الانبهار بالهالة التي تحاط بها المرجعيات الشيعية أمام التشويه الذي يطول مرجعياتنا السنية المغربية التي يتعين عليها - حتى لا يُتهم أنصارها بالتقديس- أن تنتمي إلى"المشرق" ،وكأننا نحن المغاربة قد جُبلنا على "احتقار" كل ما هو مغربي.والحقيقة أن المُتهِمين غيرهم "بالتقديس" يختلط عليهم الأمر عندما تتمثل المباديء في الشخص، فيُحترم لأجل ذلك فيحسبون أن المحترِمين يُجِلون الشخص لا المباديء،ولقد سطَّر يراع ابن القيم في نونيته الشهيرة أبياتا من الشعر عبر بها عن إجلاله لأستاذه الكبير ابن تيمية فقال:
حتى أتـاح لِيَ الإلـه بفضـلـه من ليس تجـزيه يدي ولســـاني
فتى أتى من أرض حـران فيـا أهلا بمـن قـد جـاء من حــران
فالله يـجـزيـه الذي هو أهـله من جنـة المـأوى مع الرضـوان
أخذت يداه يَدي وسار فلم يَرِمْ حتى أرانـي مطلـع الإيمــــان
ورأيت أعـلام المديـنـة حولـها نزل الهدى وعسـاكـر القـرآن
ورأيت آثارا عظيـمـا شـأنهـا محجـوبةً عـن زمـرة العميــان
ووردت كأس الماء أبيض صافيا حصـبـاؤه كـلآلئ التيـجـــان
ورأيت أكـوابا هـنـاك كثـيـرة مثـل النجــوم لوارد ظـمآن
إن تَلقِّي أبجديات السلوك والتربية الإيمانية عن الأكابر مبدأ إسلامي راسخ،وهذا ما تعنيه"العدل والإحسان" "بالصحبة" التي ربطتها "بالجماعة"،وفي هذا الربط ابتعاد عن مفهوم "الصحبة"في التصوف التبركي ،ففي هذ النوع من التصوف الصحبة منفردة لا شأن لها بالجماعة والمجتمع وهموم الناس،وتعتمد أساليب العزلة وتربية الصمت والتسليم المطلق الذي أجملوه في مقالة " يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله" وهي مقالة اعتبرها ياسين خطيرة " لأنّ المريد لا يستطيع تمييز الشيخ الرباني من النصّاب الكذاب، فيسقط في يد نفس طاغية تلعب به كما تلعب بصاحبها"[22].
الخطوة الثانية:الذكر
أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يذكروه ذكرا كثيرا"يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " [23]،وحذر من الإعراض عن ذكره "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"[24]،هذا الذكر يثمر الخشوع والخشية ومحبة الله والتذكر الدائم للآخرة،ويدفع إلى عمل الصالحات،وإن حسم مادة المعاصي من الأساس يحتاج إلى لزوم ذكر الله،لأن أي معصية تبدأ بخاطرة ثم تتحول إلى فكرة،ثم إلى عزم،ثم إلى عمل،ثم إلى عادة مستحكمة يُطلب إلى المؤمن الإقلاع عنها أي "التوبة"،وكلما كانت ساحة النزال مع المعصية مقتصرة على"الخطرات" سهلت التوبة،وذكر الله هو الذي ينتج استقامة"الخطرات"،لذلك قيل:"ترك الذنب أهون من طلب التوبة"،وهو الذي يمد المؤمن بحساسية في الضمير وشفافية في الشعور،وبه يجمع إلى الحكمة العقلية الرحمة القلبية،وبه يكون على يقظة مستمرة وحذر من أن يأكل الاستغراقُ في هموم الرزق والمعاش،والاستغراق في الماهيات التنظيمية والسياسية والاجتماعية جذورَ الإيمان،فتستدرجه الغفلات إلى الزلات،ولهذه الاعتبارات كلها عممت"العدل والإحسان" على أعضائها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي ورقة وسمتها ب"يوم المؤمن وليلته" لتظل قلوبهم موصولة بالله وهم في معمعان الحركة وفي غمار مواجهة الاستبداد والفساد،جاء في الورقة:" من أعمال شعب الإيمان ما يلزم المؤمن مرة في العمر كالحج. ومنها ما يلزم مرة في السنة كصوم رمضان، ومنها ما هو موقوت مضبوط كالصلاة والزكاة، ومنها ما يسنح في أوانه وبمناسبته كعيادة المريض وتشييع الجنازة،ومنها ما هو فرصة دائمة كإماطة الأذى عن الطريق، ومنها ما هو صفة نفسية مصاحبة كالحياء، ومنها ما ينبغي أن يصبح عادة راسخة كقول لا إله إلا الله.
لكن المؤمن يجب أن تكون في حياته اليومية معالم لتكون قدمه راسخة في زمن العبادة والجهاد لا في زمن العادة واللهو. هنالك أوقات المهنة والأسرة والمدرسة والشغل،فيجب ألا يمنع توقيت زمن الوظائف الدنيوية عن إقامة الصلاة في وقتها بأي ثمن، وعن الصلاة في الجماعة والمسجد ما أمكن. فإن لم تكن جماعة ومسجد فواجب المجاهد أن يؤلف حوله المصلين في معمله وإدارته ومدرسته ويتخذوا لهم مسجدا وأذانا وإماما ودقائق وعظ ودعوة.
1.يبدأ المؤمن يومه ساعة، أو سويعة إن تكاسل ولا ينبغي له، قبل الفجر يصلي الوتر النبوي إحدى عشرة ركعة. ثم يجلس للاستغفار ليكون من المستغفرين بالأسحار
2. الجلسة بعد صلاة الصبح إلى الشروق سنة. فذاك زمن مبارك يحافظ عليه المؤمن ما أمكن تلاوة، جزءا في اليوم بين صباح ومساء وذكرا وتعلما وحفظا. (الأصل:أخرج الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال): من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس كانت له كأجر حجة وعمرة" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تامة تامة تامة)
3 .صلاة الضحى صلاة الأوابين.( قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:ابن آدم، اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره)رواه أحمد وغيره وسنده جيد.
4 .السنن الرواتب، وليوتر قبل النوم من لا يقوى على القيام أو يخاف فوات الوقت. ووتر السحر أمثل.
5 .ثلاث جلسات من ربع ساعة على الأقل لذكر لا إله إلا الله مع حضور القلب مع الله عز وجل.(الأصل في ذلك : روى الإمام أحمد بإسناد حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:جددوا إيمانكم قيل: يا رسول الله كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول: لا إله إلا الله)
6 .الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم (300 مرة على الأقل يوميا)، وتخصيص ليلة الجمعة ويومها للصلاة عليه.
7.قبل النوم توجه لله عزوجل، وحاسب نفسك، وجدد التوبة، ونم على ذكر الله وعلى أفضل العزائم، ليكون آخر عهدك باليقظة مناجاة ربك أن يفتح لك أبواب الجهاد والوصول إليه. (ولنا عودة إلى ما تقصده"العدل والإحسان" بمصطلح الجهاد).
8 .إن كنت طالبا فابذل الجهد الكافي والوقت الكافي للمذاكرة،فأول واجباتك بعد الصلاة والتلاوة والذكر وتحصيل الحد الأدنى من العلم أن تنجح في دراستك وتتفوق.
9 .ساعة لأسرتك الإيمانية أو لزيارة دعوة ودراسة.
وليكن وقتك بمثابة ميزانية تنفق منها، فكن بوقتك شحيحا أن تصرفه في الغفلة وتضيعه في ما لا يغني، واعلم أن الوقت الذي تندم عليه ولات ساعة ندم هو وقت لم تذكر فيه الله تعالى باللسان والقلب والجهاد لنصرة دينه. اقتصد في وقت نفسك ولا تضع وقت إخوتك بالزيارات الطويلة وبقلة ضبط المواعيد"[25].
وقد أبدع ابن القيم رحمه الله في بيانه لأثر الذكر في السلوك إلى الله فقال:"الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن مُنِعَه عُزِل. وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارةُ ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بُوراً. وهو سلاحهم الذي به يقاتلون قطّاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست فيهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب. به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات. إذا أضلهم البلاء فهو مَلْجَؤُهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم.(...) في كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة. بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم على كل حال: قياما وقعودا وعلى جنوبهم. فكما أن الجنة قيعانٌ وهو غراسها، فكذلك القلوب بورٌ خراب وهو عمارتها وأساسها. وهو جلاء القلوب ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما زاد الذاكر في الذكر استغراقا،زاد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقا(...)به يزول الوَقْرُ عن السماع، والبَكَمُ عن الألسن، وتنقشع ظلمة الأبصار. زيّن الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين،فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصمّاء، واليد الشلاء"[26].
الخطوة الثالثة:الصدق
سؤال الاستعداد والقابلية للتربية
تحقيق الإخلاص في أعمال القلوب والجوارح هو شرط قبول الأعمال،والصدق هو الإيمان بالله وبغيبه، وهو عتبة للتصفية ونقيض للنفاق الذي يمثل أحد أوجه الأزمة في مجنمعاتنا،وليس عبثا أن يجعل الباري سبحانه جزاء المنافقين الدرك الأسفل من النار،لخطورتهم البالغة،فهم علماء اللسان(إن يقولوا تسمع لقولهم)[27]،حربائيون(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)[28]،يقلبون الحقائق(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون)[29]،يتملقون"المخزون النفسي والديني والثقافي للجماهير" فيتخذون من ذلك التملق جسرا يعبرون عليه إلى مصالحهم وامتيازاتهم (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)[30]،برنامجهم تطبيع حياة الناس مع المنكر وما في معناه من ظلم وفساد وتعدي على الحقوق(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف)[31]،ولقد دعت"العدل والإحسان" حتى الإسلاميين أنفسهم إلى التمسك" بمبدإ الوضوح والصدق ليستظهروا بالصدق على مناوشات الماكيافليين سماسرةِ السياسة المحتـرفين"[32]،وحذرتهم من" تغميض الأحوال على الناس بِلَفِّها في خِرَقِ الشعار الإسلامي والوعد الخيالي"[33].
بكلمة فالصدق "خصلة إيمانية جامعة تناقض:
1- النفاق بشعبه، وأهمها الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصام
2- البقاء على العادات والذهنيات والأنانيات الموروثة.
3- البقاء على الإسلام الموروث عقيدة وعبادة وعلاقات
4- الرضى بالأوهام والخرافات المتفشية في الشعب
5- الرضى بأنصاف الحلول في الأهداف
6- التجميع التكاثري دون اختيار العناصر واختبارها.
7- الغموض في كفاءات الأفراد، ونواياهم"[34]
إن الخطوات الثلاث:"الصحبة والجماعة" والذكر والصدق يعتبرها مرشد"العدل والإحسان" الشروط الثلاث للسلوك و"معادلة التربية الإسلامية في خطوطها الرئيسية، شرط في المربي (بالكسر) وبيئة التربية، وشرط في تجديد الإيمان، وشرط في المربى(بالفتح) وقابليته"[35]،وما بقي من الخصال والخطوات العشر"تكمل الشروط وتجلو الصورة"[36] وتحت كل واحدة منها تفاصيل وتفاريع لا يحتمل هذا المقال بسطها،وهي -أي الخصال- على حد عبارة مرشد"العدل والإحسان"[37]:
"الخصلة الرابعة : البذل
البذل عطاء وسماحة وكرم ومساعدة وخدمة وفُتُوَّة. مُقابلَ أنانية المستكبرين والترفّعِ والتنطعِ والحرصِ الجشع، والصمم عن بؤس البائسين، وحاجة المحتاجين.
الخصلة الخامسة : العلم
العلم ما قربنا إلى الله،وما بصرنا بمصيرنا إلى الله، وما دلَّنا على واجباتنا من قِبَل الله، وما رسَّخ خطانا اتباعا واحتراما لسنة رسول الله. ثم العلم والفقه في أصول الدين وفروع العبادات. ثم العلوم الآلية الضرورية في الحياة مما أنتجته العقول، ورتبته تجربة الإنسان، واكتسبه الجادّون في نُشدان الحكمة، أنَّى وجدوها فهم أحق بها.
الخصلة السادسة : العمل
الإيمان تصديق بالجنان، وشهادة باللسان، وعمل بالأركان. الذين آمنوا إنما يعرفون بالعمل الصالح. قال الله تعالى : "الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب"[38].
الخصلة السابعة : السَّمْتُ الحسن
السَّمْت التميُّز شكلا ومضموناً ،وبالتحلي القلبي والعقلي بقيم الإيمان وأخلاق الإحسان يكتسب المجتمع الإسلامي المناعة ضد العدوى الحضارية المادية فيتقمص أشكالا حضارية تُظهر على السطح ما في الباطن.
الخصلة الثامنة : التُّؤدَةُ
التُّؤدة صبر ورِفق وطولُ نفس، وتحمّلٌ للأذى. هي الخصلة الخلقية السياسية الاستراتيجية التي تفصل بين العمل المرتجل الانفعالي وبين العمل المخطط المحكم : خصلة امتلاك النفس، والصبر على طول الطريق ومشقة العمل، والتريث حتى تنضج الثمار.
الخصلة التاسعة : الاقتصاد
الاقتصاد توسُّطٌ رفيق، وسير حثيث، وخطًى في الدنيا لا تزيغ بك عن قصدك الأخروي ومطلبك الإحساني،والاقتصاد تجديد القصد، ونقد المراحل، والاستفادة من الأخطاء وتوفيق الأعمال الجزئية وتنسيقها. ثم إن الاقتصاد في اللغة والشرع توسط لا يقبل المغالاة ولا "حرق المراحل". ثم الاقتصاد بمعنى الإنتاج والتوزيع وتنظيم الملكية وما تحمل الكلمة من مدلولات عصرية.
الخصلة العاشرة : الجهاد
الجهاد في عُرف الجاهلين جهاد السيف وانتهى السؤال،وكأنَّ الإسلامَ نقمةٌ على بني الإنسان،أما جهاد البناء فمطاولة تنْقُضُ صروحَ الباطل في الديار لتبني جيلا وعقلية، وإيمانا، ونمط حياة، ومقوِّمات حياة"[39]
وتوسلت"العدل والإحسان" لتحقيق خطتها العملية للسلوك والتربية الإيمانية بعدة وسائل يندرج قسم منها في مجال النظر كإنجاز ورقات فقهية ترمي إلى التأصيل الشرعي لمواد "الخطة" لقطع الطريق على أقوام سعوا إلى التشغيب عليها(أي على الخطة) بإثارة مسألة السُّنية والبدعية،ويندرج قسم آخر في مجال العمل ومن أهم وسائله اللقاءات التربوية ومجالس"النصيحة" التي تُعقد أسبوعيا،والرباطات التي تستغرق ثلاثة أو عشرة أو أربعين يوما(يقع الحرص على حضور أعضاء الدائرة السياسية فيها)،يصحبها صيام وقيام في رمضان وفي غيره وأداء النوافل المرتبة على كل فريضة،تجمع ثلة من المؤمنين يصبرون أنفسهم مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه،وفق برنامج محدد وموزع على أوقات الرباط )الذي هو انتظار الصلاة بعد الصلاة( وهذا مثال له:
* يبدأ البرنامج ساعتين قبل صلاة الصبح:تشتمل على قيام الليل وأداء الوتر النبوي إحدى عشر ركعة،وعلى الاستغفار ثم صلاة الصبح
* بعد صلاة الصبح ذكر الله تعالى إلى شروق الشمس )ترديد الكلمة الطيبة لا إله إلا الله(
* استراحة لمدة ساعتين ثم استيقاظ وأداء صلاة الضحى،ثم الشروع في حصة حفظ القرآن
* الجلوس للصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة قبل الظهر
* سويعة للاستراحة بعد صلاة الظهر ثم الشروع في مراجعة ما حفظ من القرآن الكريم إلى صلاة العصر
* بعد العصر جلسة أيضا للصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم،ثم جلسة للختمات القرآنية الجماعية،ثم جلسة لذكر الكلمة الطيبة )لا إله إلا الله(،ثم جلسة قبيل المغرب للإنصات بتدبر لأحد مشاهير القراء.
* بعد الإفطار وصلاة العشاء جلسة علمية يلقي فيها أحد المتخصصين درسا نافعا في الدين أو الدنيا ليكون موضوع مناقشة
* وختام البرنامج اليومي استغفار قبل النوم.
تشكل الرباطات محاضن تربوية حقيقية،يخرج منها المرابط بحال غير الحال التي دخل بها،وإن كنت أنسى فلن أنسى أول رباط حضرته أواسط الثمانينيات ،يومها فقط فهمت الحديث النبوي الذي يفيد بأن مجالس الإيمان تغشاها الرحمة وتتنزل عليها السكينة،ورأيت بأم عيني الطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي يقومون على خدمة التلميذ والطالب والعامل والفلاح،كما أشعرتني رؤية الخاشعين البكائين بضآلتي وتقصيري في جنب الله،وألجأتني إلى القيام بعملية حفر عميقة -ما زالت مستمرة إلى اليوم- للتفتيش عن معايب النفس ومراوغاتها وتلونها وخدعها.
بهذه التربية المضمنة في "الخطة العملية" التي عرضناها يمكن أن نكسب الفرد المسلم مناعة ضد الغفلة عن الله والآخرة، ونكسب الأمة"مناعة ضد التردي القطري التقسيمي، كما نكسبها منعة ضد الحكم الاستبدادي، وضد الاستكبار، وضد التبذير والظلم"[40].
الهوامــش
[1] العنكبوت/57
[2] القصص/88
[3] البقرة/281
[4] المومنون/115
[5] العلق/8
[6] البقرة/8
[7] المومنون/16
[8] الروم/25
[9] الصافات/22
[10] الصافات/24
[11] غافر/17
[12] الأنبياء/47
[13] سنن الترمذي 9/348
[14] المنهاج النبوي ص 59
[15] نفسه
[16] نفسه ص 132
[17] نفسه ص122
[18] نفسه
[19] نفسه ص124
[20] الفتاوى 11/499
[21] الكهف 17
[22] الإحسان 1/235
[23] الأحزاب/41
[24] طه/124
[25] المنهاج النبوي
[26] ابن القيم،مدارج السالكين
[27] المنافقون/4
[28] البقرة/14
[29] البقرة/11
[30] المنافقون/1
[31] التوبة/67
[32] العدل ص 552
[33] نفسه
[34] المنهاج/163-164
[35] المنهاج 61
[36] نفسه
[37] المنهاج 393
[38] الرعد/29
[39] عبد السلام ياسين،رسالة تذكير،مقدمات في المنهاج
[40] المنهاج النبوي ص 393