لسنا من هواة الرثاء ولم يكن «الجابري»، رحمه الله، ليرضاها لنا عنه شهادةً، لذلك فإحياء الذكرى الأولى لوفاته ستكون لحظة للاعتراف بالفضل وتجديدا للوصل مع جذوة السؤال..
السؤال عن الديمقراطية والمواطنة، الحداثة والتراث، القيم والأخلاق، التنمية وحقوق الإنسان، سؤال نحسب أننا اليوم لسنا بعيدين عن الإشكالات التي فرضته منهجيا وتاريخيا، فـ«الزلزال» الذي يضرب العالم العربي اليوم أقوى بكثير من نكسة 76، فليست الدولة العربية، اليوم، وطنية وشعبية، فقد ازدادت أصنام اللحوم تشبثا بالكراسي وأمعن المستبدّون في تقتيل شعوبهم، باسم العمالة والتخوين، لذلك فمن يقرأ ما يقع اليوم في العالم العربي لا يمكنه إلا أن يعود إلى فكر الرجل... فالذكرى الأولى لوفاته هي لحظة، إذن، لنشكره، حيا وميتا، حيا، عندما أجاد وأفاد، وميتا، عندما سيتيح لتلامذته ولعموم المثقفين الفرصة أن يفكروا، بصوت مسموع، في ما يجعل من فكر الرجل فكرا منتميا إلى «الآن»...
الجابري.. حفريات في الذاكرة
محمد عابد الجابري، الإنسان، من تلميذ حاصل على شهادة التعليم الابتدائي في فجيج، اضطر لممارسة مهنة الخياطة والتجارة في أحياء درب السلطان، لكي يعيل نفسه، إلى مترجم في جريدة «العلم»، فطالب في شعبة الفلسفة في جامعة محمد الخامس، إلى أستاذ جامعي ومفكر عربي ومرشح لقيادة أكبر أحزاب المغرب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. بدأ مساره كمناضل، بالمعنى الحقيقي للكلمة، مناضل في الحياة، منذ كان ينام رفقة رفاقه التلاميذ في دكان للخياطة كالسردين (وفق تعبيره)، ليتقدم لامتحان الشهادة الإعدادية والثانوية كمترشح حر، ومناضل في العلم، عندما حصل على الرتبة الأولى على الصعيد الوطني في أول امتحان باكلوريا في مغرب الاستقلال، مع أن ترشحه كان حرا ولم يكن رسميا.. ليصبح علَما من أعلام الفكر العربي والمغربي في كل الأزمنة، إلى مناضل على الساحة الإعلامية مع جريدة حزب الاستقلال ضد بقايا الاستعمار، ثم جريدة «المحرر» وجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، دفاعا عن الدولة الشعبية، ثم مناضلا في المجالات السياسية والثقافية والتربوية.. أصبح اسم الرجل مفتاحا لفهم تاريخ المغرب الحديث، فاسمه مفتاح لفهم قضايا، كالكتلة التاريخية والحركة الوطنية واليسار المغربي والصحافة الحزبية والدولة الوطنية وقضية التعليم... والوعي القومي والعقل العربي، بكل مكوناته.
الجابري.. المناضل والفيلسوف
عندما نقرأ سيرة الراحل محمد عابد الجابري وأعماله، كما تتحدث عنه صراحة، حينا، وهمسا، أحايين كثيرة، نفهم معنى «أصيل» في مفهوم ابتذله «رفاق» انقلبوا عنوة عن درب الأصالة في الفكر والصدق في النضال. إنه «المثقف العضوي»، بل إنه على رأس من يستحقون في مشهدنا الثقافي الوطني هذا الاسم دون التباس.. اشتغل في السياسة حزبيا وإعلاميا وفلسفيا.. في زمن كانت السياسة، كما الصحافة، عملا فدائيا بامتياز.. حتى عندما غيّر الرفاق دروبهم وطرقوا أبواب «الواقعية السياسية»، المفضية إلى حلبة التناطح والتآلب.. على المناصب والكراسي.. حافظ الرجل على إصراره على أن الممكن الوطني والقومي أكبر وأشرف من حملة انتخابية ومن «كوطا» تحت طاولة المصداقية.. لذلك رفض قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 3691، رغم إلحاح الراحل الفقيه البصري، ورفض، مرارا، الترشح للانتخابات البرلمانية، رغم إلحاح القواعد الحزبية والقيادات البارزة، كالراحل عبد الرحيم بوعبيد، مكتفيا بعضوية دينامية ومسؤولة في المكتب السياسي للاتحاد لمدة طويلة..
عُرِف، وهو في الاتحاد، باجتهادات كثيرة تهُمّ الشأن السياسي، أهمها ما يعرف بـ«الكتلة التاريخية»، وهو مفهوم قادر على استيعاب تيارات سياسية ومشارب إيديولوجية مختلفة، من منطلق اقتناعه بضرورة قيام كتلة تاريخية في كل قطر عربي، وفي العالم العربي ككل، من أجل إنجاز المهام التاريخية التي تفرضها المرحلة، مهام إرساء أسس الديمقراطية الحق وتدشين انطلاقة قوية شاملة نحو القضاء على التخلف في كافة الميادين الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والسياسية، فـ«بدون كتلة تاريخية من هذا النحو، لا يمكن تدشين مرحلة تاريخية جديدة يضمن لها الاستمرار والاستقرار»، يقول في كتابه «وجهة نظر»..
أعطاه زهده في إغراءات السياسة وعفته عن أطاييب مساوماتها في مغرب سياسي غير شفاف.. صفاء الذهن وقوة العزم على طلب العلم الأكمل والأشرف الموجود في البرهان.. فنقد وفكك وحقق.. وناظر ثم ربى، وكان له في هذا فضل اجتهاد ومذاكرة، وقوة منة ومواتاة قريحة... عبَرت لغة الضاد إلى نظيراتها في كل فج عميق، فقرأ له البوذي في اليابان والمسيحي في أوربا والعجم في الترك وأندونيسيا.. ناهيك عن العرب في مشارق الأرض ومغاربها.. بدءا بأولى بنات أفكاره (العصبية و الدولة) حتى آخرها رحمه الله (فهم القرآن).
كان محمد عابد الجابري، كصحافي، من الرواد الأوائل في العمل الصحافي، عندما كانت الجريدة تقرأ من وراء حجاب، وكانت الكتابة أخطر من المتاجرة في الأفيون. يكفي أن نقول إنه كان رفيقا للراحل عمر بنجلون ابن المغرب الشرقي هو أيضا، حيث ساهم بكتاباته في جريدة «العلم» عندما كان حزب الاستقلال يلملم كل التيارات السياسية، ثم جريدة «المحرر» و«الاتحاد الاشتراكي» وساهم، أيضا، في إصدار مجلة «أقلام»..
علم الجابري، المربي، وأطّرَ آلاف الطلبة على مدى 53 سنة، في رحاب جامعة محمد الخامس في الرباط، وتلامذته هم من حملوا مشعل تدريس مادة الفلسفة والعلوم الإنسانية في التعليمين الثانوي والجامعي، بعضهم اختلفوا مع أستاذهم في الرؤية والمنهج والممارسة الثقافية أيضا، لكنه «اختلاف عشاق»، بلغة هايدغر، ككمال عبد اللطيف وسالم يفوت والمصباحي وعبد السلام بنعبد العالي وغيرهم كثير، فقد ظل الجابري بالنسبة إلى هؤلاء كالسّكَّر في حبة العنب وكالكحل في العين السوداء.. حيث عُرِف عنه تواضعه وحسن إنصاته وذكاء ملاحظاته ووفاء توجيهاته..
أما الجابري، المفكر والفيلسوف، فهو اسم بصيغة الجمع، فمن الثقافة والفكر، مرورا بالتربية واللغة، وصولا إلى العمل السياسي والحقوقي، التنظيري والحزبي، خطّ الرجل مسيرة مثقف عضوي أو فيلسوف ديمقراطي، بلغة غرامشي، لذلك لا عجب أن اختصرت مسيرته أحلام ورهانات كبار «قياصرة» الفكر المغربي المعاصر، إلى جانب عقول أخرى جسّدوا، بالقوة والفعل، أطروحة «النبوغ المغربي» للعلامة عبد الله كنون، رحمه الله، أمثال عبد الله العروي والخطيبي وطه عبد الرحمان...
حتى في كتاباته التنظيرية، تنعكس لدى الرجل هواجس تربوية تدفعه، أحايين كثيرة، إلى ارتداء لباس المعلم المبسط والموضح.. استشهادا بالأمثلة واختيارا للشواهد، وهو في هذا كان وفيا لسيرة الفيلسوف الغطريف المغربي المفخرة أبي الوليد بن رشد، والذي رام رفع اللبس والغموض عما استعصى عن أفهام الناس من قول «المعلم الأول»، تفسيرا وشرحا وتلخيصا، وفضْلُه في هذا على أهل زمانه أكبر وأعظم، وفي نفس الوقت، دفع الناس إلى طلب الحق حثيثا حتى وإن نطق به من خالفهم الملل والنحل، فكتب الجابري في هذا وعنه، بسدادِ طريقةٍ وصواب تحليل لاستخلاص عِبَره.. فأجاد وأفاد واستحق عن ذلك أكبر تكريم.. يكفي أن نقول إنه لو لم يقرأ المتعلم العربي العادي غير كتابه «نقد العقل العربي»، بأجزائه الأربعة لَكفتْه، لتكون له رؤية كافية عن عظمة تراثه العربي الإسلامي.
عُرِف الجابري، الفيلسوف المجدد، بسيرة وفكر ابن رشد، كاتب العقل الفلسفي والفقهي العربي، المتنور والمتجدد، الذي لم يستطع أن يكون كاتب سلطان أو ديوان، كما فعل آخرون، وقدّم دراسات يلتقي فيها التحقيق بالتحليل والتفكيك لنصوصه ومأثوراته الحية. وقد شكّل ابن رشد بالنسبة إلى الجابري نموذجا للمثقف العربي المطلوب، اليوم وغدا، المثقف الذي يجمع بين استيعاب التراث وتمثل الفكر المعاصر والتشبع بالروح النقدية وبالفضيلة العلمية والأخلاقية.
أما الجابري، العالم المحقق، فله آراء هامة في مسألة التراث، تتمثل حصيلتها في أن الأخير يشكل، بالفعل، المقوم الأساسي للنزوع الوحدوي العربي في كل العصور، كما يغذي هذا النزوع في العصر الحاضر بصورة أقوى، لكنْ، مع ذلك، لا بد من الاعتراف بأننا لم نتمكن بعد من ترتيب العلاقة بين أجزاء هذا التراث، من جهة، وبينه وبيننا، من جهة أخرى، وبالصورة التي تجعله يؤسس ذاتنا العربية وفق متطلبات العصر، فالتاريخ العربي، كما نقرؤه اليوم في الكتب والمدارس والجامعات هو تاريخ «فِرق» وتاريخ «طبقات» وتاريخ «مقالات».. إنه تاريخ مجزّأ، تاريخ الاختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء الرأي...
وفي كتابه «العقل العربي»، يؤكد أن ثمة مبررات لإعطاء الأولوية للغة العربية في دراسة مكونات العقل العربي، منها أن العربي يحب لغته إلى درجة التقديس ويعتبرها السلطة التي لها تعبير ليس فقط عن قوتها وإنما عن قوته هو أيضاً، وأهم ما أسهم به العرب في الحضارة الإسلامية التي ورثت الحضارات السابقة لها هو اللغة العربية والدين الإسلامي، الذي بقي عربيا ولا يمكن يستغنى عن لغة العرب، وهذه المواقف جرّت عليه الكثير من التحامل، خصوصا من طرف بعض غلاة الحركة الأمازيغية من بني بلدته الأصلية، فجيج...
كانت للجابري -رحمه الله- معرفة علمية دقيقة بالتراث ومقدرة عالية على الجدل والمناقشة في مختلف قضايا المصير العربي ومسائل العصر وله مساهماته الواسعة في المواسم والمؤتمرات والندوات الثقافية في الوطن العربي والخارج، وهو، أيضا، ناقد عقلاني يقرأ تراثنا الفلسفي بعين معاصرة هادفة وثاقبة، ويسعى إلى تجذير وترسيخ فكر عربي تجديدي عقلاني ديمقراطي متنور ومتحرر يتخذ من الينابيع التراثية العربية والإسلامية مصدرا وملهما له.