كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة..
لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا بـ«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق...
الحديث عن الثورة الكوبية هو حديث عن شخصية ثورية ما تزال، إلى اليوم، لغزا يصل حد الأسطورة، ليس فقط في الخط الثوري الذي اتخذته، بل لأنه يعد رمزا للثوار الذين «لم تأكلهم الثورة»، كما فعلت بأبناء آخرين لها.. لذلك كانت ثورة مسلحة أدت إلى الاطاحة بالديكتاتور فولهنسيو باتيستا في كوبا في فاتح يناير 1959 من قِبل حركة 26 يوليوز بقيادة فيدل كاسترو.
عُرف فولهينسيو باتيستا بخُطبه النارية، حكم كوبا حكما ديكتاتوريا من عام 1934 إلى 1944 ومن عام 1952 إلى عام 1959، فبعد الحرب العالمية الأولى، ظهرت مساوئ الاعتماد على محصول زراعة السكر فقط بعد انتعاش لم يعمر طويلا، لم يلبث ذلك أن انعكس على ظهور دكتاتوريات محلية فجاء الدكتاتور جيراردو ماشادو ثم في عام 1950، ظهر الدكتاتور فولهنسيو باتيستا، الذي اضطر إلى الهرب إلى جمهورية الدومينيكان عام 1959، مما أعطى الفرصة لفيدل كاسترو لأن يحتل العاصمة ويعيّن نفسه رئيسا للوزراء، بمساعدة تشي غيفارا.
بدأ فيدل كاسترو، وكان محاميا شابا، الثورة ضد باتيستا في يوليو 1953 إلا أنه قبض عليه وعلى رفاقه وسجنوا. وبعد إطلاق سراحه، أسس حركة 26 يوليوز، التي بدأت العمل ضد حكومة باتيستا. وقد نجحت هذه الحركة في منتصف عام 1958، حيث سيطرت على الأوضاع وفّر باتيستا خارج البلاد وأصبح كاسترو رئيسا للحكومة. حاولت الولايات المتحدة دعم حكومة كاسترو، في البداية، ولكن القيادات الثورية لم ترحب بذلك الدعم. ومما زاد العلاقات بين الطرفين سوءا قيام الحكومة الكوبية بالسيطرة على مصالح الأمريكيين هناك خلال عامي 1959 - 1960.
وفي أواخر 1959، قام عدد كبير من الكوبيين المعارضين لكاسترو، الذين غادروا بلادهم إلى الولايات المتحدة، بعمليات إلقاء قنابل حارقة ومنشورات فوق كوبا سابقا، مستخدمين في ذلك طائرات أمريكية مستأجَرة. ولم تحاول الولايات المتحدة منعهم، مما دفع كوبا إلى التحول نحو الاتحاد السوفييتي (سابقا) لشراء الأسلحة لمواجهة المعارضين. ووقعت كوبا أول اتفاقية لها مع الاتحاد السوفييتي في فبراير 1960.
شرع الاتحاد السوفييتي في تزويد كوبا بالمعدات العسكرية، وخصوصا بعد إقامة قاعدة صواريخ روسية فيها، أشعلت أزمة الصواريخ الكوبية وخشيت الولايات المتحدة أن تكون هناك معدات نووية وحذرت الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي من نشوب حرب نووية، ولكن سرعان ما تم سحب المعدات والصواريخ، دون حدوث مواجهة عقب الانقلابات الفاشلة التي قام بها كاسترو، والتي كانت تهدف إلى قلب النظام الديكتاتوري. وبعد أن أمضى كاسترو سنتين في السجن وبعد مجيء المجلس الجديد، الذي صوّت لكاسترو ورفاقه بـ«الحرية»، خرج كاسترو من سجنه الصغير في جزيرة الصنوبر ووجد، بعد بضعة أيام، أن كوبا بكاملها غدت سجناً كبيراً، فالتجأ كاسترو مع بعض رفاقه إلى المكسيك.
أخذ كاسترو يتهيأ للقيام بثورة تحررية مسلحة تهدف إلى إسقاط الديكتاتورية في كوبا. وكان اختيار كاسترو أرضاً محايدةً هي المكسيك أُولى خطوات الإعداد للثورة، ولكن اختياره المكسيك لم يُبقِه بعيداً عن عيون وكالات الاستخبارت الأمريكية وعملاء باتيستا، الذين ظلوا يلاحقون كاسترو ورفاقه.
بعد أن اختار كاسترو المكسيك، أسس حركة 26 يوليوز، التي أدارت الثورة الكوبية. بدأ كاسترو باختيار رجال هذه الحركة، وقد كان الرجال مترددين، لكونهم فشلوا، في المحاولة الانقلابية الأولى، في السيطرة على ثكنة مونكادا.. وقد غادروا الصفوف، بينما انضم آخرون، لأسباب مختلفة، إلى أحزاب سياسية أو جماعات ثورية تتطلب منهم قدْراً أقل من التضحيات.
وخلال انتقاء كاسترو رجال حركة 26 يوليوز، التقى بالطبيب الأرجنتيني أرنستو شي غيفارا، الذي كان قد شارك في ثورة غواتيمولا، والتي كُتب لها الفشل أيضاً. دار نقاش بين الرجلين، وأصبح غيفارا، في أقل من 12 ساعة، من أفراد حركة26 يوليوز. وقد نشأت علاقة قوية بين كاسترو وغيفارا. «إن الصداقة التي ربطت بين كاسترو وغيفارا كانت وثيقة وأخوية، صداقة مارس من خلالها كل منهما تأثيراً حقيقياًّ على الآخر، إنما بالاحترام الواضح من قِبَل تشي غيفارا، احترام الصغير لأخيه الأكبر».. ثمة حقيقة تفرض نفسها بكل جدية: بدون كاسترو، لم يكن بإمكان تشي أن يصل
إلى ما وصل إليه، والعكس صحيح، أيضاً.
أما المرحلة الثالثة فقد تمثلت في التدرب على الأسلحة وعلى الرماية وإعداد رجال حركة 26 يوليوز لتنفيذ الثورة. فلم يستطع كاسترو إعطاء الدروس في التكتيك العسكري، إذ لم يكن لديه متسع من الوقت من أجل ذلك، فقام بذلك الجنرال ألبرتو بايو، وكان إسبانياً مقيما في كوبا. كان الثوار يتلقون دروس الرماية في مزرعة في مكسيكو، وبينما كانوا يستعدون الاستعدادات الأخيرة للقيام بالثورة، كانت هناك منظمتان بوليسيتان مأجورتان من باتيستا تتعقبان كاسترو، فأُلقِي القبض على معظم أفراد الحركة وأمضوا حوالي 57 يوماً في السجون المكسيكية، ولكن كاسترو قام بدفع المال من أجل إخراج أفراد الحركة، وقد تم له ذلك.
أما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة إحضار الأسلحة والأموال لدعم الثورة، فقد استطاعت حركة 26 يوليوز أن تحصل على المساعدات المالية لشراء الأسلحة من خلال الشعب الكوبي.
في ظل هذه الأحداث، كان لا بد من تنظيم أفراد حركة 26 يوليوز من أجل الاستمرار في الثورة، فقام فيديل بتنظيم وتوسيع المهام لهذه الحركة وقسّم أعضاءها إلى مجموعات، يمركز مجموعة منها في الغابات، ولها مهام عسكرية، ومجموعة تعمل على الاتصال بالمدن، من مهامها القيام خلق الاضطرابات والتحضير للإضرابات وإيصال أخبار الثورة إلى سكان المدن ودفع السكان إلى التعاطف مع الثورة.
بعد تنظيم صفوف الثوار، بدأت الثورة تحصد نتائجَ مهمة، فقد اعتمدت حركة 26 يوليوز على شن حرب العصابات فحصدت انتصاراتٍ عدة، فكانت تعمل على شن الهجوم على مواقع الجيش الديكتاتوري، وخصوصاً على الثكنات العسكرية، نظراً إلى أهمية المخازن الموجودة في هذه الثكنات، وكانت هذه الثكنات من أهم مصادر تموين الثوار بالسلاح، فكانوا يأخذون السلاح الموجود داخل مخازن الثكنات. وقد زادت أهمية الحرب ضد الثكنات عندما تزايد عدد الثوار، فكان لا بد من إيجاد أسلحة للأعضاء الجدد، فزاد الهجوم على الثكنات. بعد فشل المحاولات التي قام بها باتيستا من أجل إنهاء الثورة التي باءت بالفشل، قرر العودة إلى الخيار العسكري، وجهّز جيشاً من أجل السيطرة على المناطق التي كانت تحت حكم الجيش الثائر. وقد تنبّه كاسترو إلى هذا الأمر وقام بتنظيم الثوار داخل «سييرا» وقام بالاتصال مع مجموعة السهل، التي كانت تعمل داخل المدن من أجل خلق اضطرابات لإنهاء النظام الديكتاتوري. وقد استطاع كاسترو أن يضم معظم الأحزاب إلى جانبه في المعركة، وهنا بدأت المراحل النهائية للثورة الكوبية وصارت هذه المعارك في عدة مراحل عندما حاولت حركة السهل القيام بإضراب ثوري عامّ أظهر العمال بعض الفتور لهذا الإضراب، وقد أصدر كاسترو قبل 9 أبريل بياناً هدّد فيه كل من لم يؤيد الطريق الثورية. ثم دعا العمال إلى إيجاد جبهة وطنية تم تنظيمها من قِبَل حركة 26 يوليوز، تضم جميع الأحزاب الوطنية، لأن الجبهة تكون عاجزة وحدها عن تنظيم الإضراب .
في هذه المرحلة، ارتكبت الجبهة الوطنية خطأ فادحاً أدى إلى نتائج سلبية على الثورة، عندما قامت بتنفيذ الإضراب، دون الإعلان عنه مسبقاً. وبعد هذه الهزيمة، أعدّ باتيستا أعداداً كبيراً من عناصر الجيش من أجل السيطرة على «سييرا»، ولكن محاولته باءت بالفشل، وانقلبت النتيجة عليه، فقد استطاع الجيش الثائر هزيمة الجيش الديكتاتوري وكان هذا الفوز حافزاً لتحقيق النصر الكامل، فقد ظهر جنود باتيستا ضعفاء، مما دفع الجيش الثائر إلى الانطلاق من «سييرا» نحو جميع المناطق الكوبية، إذ قد قاموا بضرب المواصلات لكي يمنعوا إيصال المؤن والذخائر إلى الثكنات العسكرية. وقد أدت هذه السياسة إلى نتيجة في صالح الثوار، الذين استطاعوا تعطيل الانتخابات التي كانت مقررة، فبعد كل هذه الهزائم، لم يبقَ في أيدي الديكتاتور سوى ثكنة «ليونسيوفيدال». وبعد سقوط هذه الثكنة بدورها، سقط النظام الديكتاتوري وفرّ باتيستا إلى خارج كوبا وزحف كاسترو نحو هافانا، التي استطاع الجيش الثائر دخولها وفتحها...