الدستاتور
الدساتير الديمقراطية في عالم المتحضرين كما هو متعارف عليه عند الدارسين وأهل السياسة والفكر،هي التي تعبر شكلا ومضمونا عن إرادة الشعوب لا عن إرادة الحاكمين، باعتبار أن الشعوب أسمي حتى من دساتيرها وأكثر شرعية حتى من حكامها،لأنها واضعة الدساتير والمفوضة للحكام بموجب عقد تبرمه معها ، ولها صلاحية وشرعية إسقاطها والتمرد عليها متى رأتها لاتعبرعن احتياجاتها و مشاكلها ولاتهتم بمعضلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.....
إن المتتبع للوضع السياسي بالمغرب منذ تعيين اللجنة الملكية التي يرأسها السيد المنوني للقيام بمهمة مراجعة الدستور يدرك دون عناء الخطأ الجسيم في المنهجية المعتمدة لمراجعة هذا الدستور ،وبالتالي انعكاسها على الشكل والمضمون معا ، بدءا بالآلية المعتمدة في تشكيل اللجنة مرورا بطريقة المراجعة والمناقشة لمشروع وثيقة الدستور وصولا إلى مرحلة التصويت عليه وطرق إقراره، وما تخلل ذلك كله من أساليب الاحتيال على إرادة الشعب المغربي والالتفاف على مطلبه الأساس بهذا الخصوص المتمثل في الجمعية التأسيسية المنتخبة المخول لها مراجعة الدستور أو صياغة دستور جديد ،حتى لتكاد هذه الأساليب تكون اختراعا مغربيا خالصا وماركة مسجلة خاصة بهذا البلد يصدق فيها وصفنا إياه بالدستاتور لما للكلمة من معاني الاستفراد واحتكار القرار السياسي للبلد من قبل المخزن ، وما يندرج تحتها من غياب للديموقراطية في شتى مراحل مراجعة الدستور الحالي إلى أن تم إقرار وثيقته النهائية . خاصة إن استحضرنا الإقصاء الممنهج لهيئات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات ومؤسسات المجتمع الأهلية من المشاركة في إنضاج مشروع وثيقة الدستور وما وقع من خروقات يوم التصويت لفرض بلوغ نسبة .12 98 في المائة من المصوتين حتى ولو تطلب الأمر ملأ صناديق الاقتراع بوسائل ابعد ما تكون عن شيء اسمه النزاهة أو الديمقراطية وهو الأمر الذي أكدته هيئات حقوقية ومدنية وطنية ودولية ووكالات أنباء محلية وخارجية هذا إذا لم نضف إليه تضارب مضمون الجريدة الرسمية في عدديها : 5952 ﻣﻜﺮر اﻟﺼﺎدرة ﺑﺘﺎرﻳﺦ 17ﻳﻮﻧﻴﻮ 2011وعددها 5956 اﻟﺼﺎدرة ﺑﺘﺎرﻳﺦ 30 ﻳﻮﻧﻴﻮ 2011 الذي ادعي بموجبه اﺳﺘﺪراك ما أسمته الأمانة العامة للحكومة في بيانها بتاريخ 10 يوليوز2011 بخطإ وﻗﻊ ﻓﻲ ثلاثة فصول من وثيقة مشروع الدستور المنشور باﻟﺠﺮﻳﺪة اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻋﺪد 5952 مكرر وهي الفصول 42و55و132 .الأمر الذي فتح نقاشا قانونيا وطرح أسئلة مشروعة لدى الرأي العام المغربي حول أي وثيقة للدستور صوت عليها المغاربة خاصة وان استدراك الخطأ تم نشره قبل يوم واحد من التصويت على الدستور هذا إن افترضنا جدلا أنهم صوتوا بكثافة حسب الرواية والنسب الرسمية المعلنة على علاتها وتناقضها من احتساب الكتلة الناخبة ونسبة المسجلين منها التي لم تتجاوز ثلث من لهم أحقية التصويت ،إلى نسبة المشاركة الحقيقية .
التاريخ يعيد نفسه
برجوعنا إلى الوراء قليلا لنستقرء دروس التاريخ المغربي الحديث لفترة مابعد الاستقلال نجد أن المطلب الأساس للحركة الوطنية التي ناضلت لسنين طويلة من اجل طرد الاستعمار عن الأرض ليتنسم الشعب المغربي هواء وعبير حرية الاستقلال من خلال دستور شعبي ديمقراطي يحدد معالم الدولة الديمقراطية الناشئة والذي كان من أهم مطالب الحركة الوطنية في وضعه وصياغته أن تشرف عليه جمعية تأسيسية يختارها الشعب وقواه الحية لا ان يعينها الاستعمار أو وكلاؤه فينا وهو المحظور الذي وقع بالفعل حيث تم الالتفاف على المطلب الأساس للحركة الوطنية وسقط المغاربة في دستور ممنوح صاغه الحاكم بمساعدة مستشاريه الأجانب في فترة لا قرار للمستعمر( بفتح الميم ) فيها إلا ما يمليه عليه المستعمر (بكسر الميم ) ،ومن يومها عانى المغرب من الاستقلال الناقص أو الشكلي كما سمته نخبه المثقفة آنذاك ، واليوم يعيش المغاربة دستورا آخر ممنوحا بعيدا كل البعد عن إرادة الشعب شكلا ومضمونا بحيث لم يشارك هذا الأخير ولا قواه الحية في صياغته وإنما تم الاكتفاء بالانصات إلى بعض الأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية كلجنة استماع لا كلجنة مشاركة في الصياغة والمناقشة لهذا المشروع أي أن وثيقة الدستور لم تأت من خلال نقاش وطني وإنما كانت من وضع لجنة مصنوعة بلغة التعليمات الفوقية ،وبالتالي فهي لجنة تعبر عن إرادة ونوايا واضعها لاعن إرادة الشعب وقواه المجتمعية .
موقفان
موقفان للمجاهد الوطني الكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي أسد المقاومة الريفية وأسطورتها الذي كبد الاستعمار الاسباني خسائر فادحة اعترف بها المستعمر قبل غيره ، الموقفان يجسدان خبرة رجل مارس السياسة وخبرها كما تمرس في القتال وفنونه .
الموقف الأول : يوم أعلن عن استقلال المغرب شكك الرجل في الاستقلال خاصة وهو الذي عرف عقلية المستعمر وألاعيبه وخططه فأعلنها مدوية أن المغاربة لم يحصلوا على الاستقلال التام وإنما هي حيلة ليهرب الاحتلال من الباب ويعود من النافذة كما يقال ، فأطلق عليه يومها رحمه الله وصفا أبدع فيه ووفق فسماه ب "الاحتقلال" * تعبيرا منه انه احتلال جديد في ثوب استقلال، وطبعا عاش المغاربة ما اصطلح عليه تجاوزا بالاستقلال وإذا بالقرار السياسي والاقتصادي ظل مرهونا للمستعمر بالأمس القريب وإذا بالسياسات العامة للبلد في شتى المجالات فيما بعد تملى من دول الاستكبار العالمي، والتبعية والارتهان للقرار الغربي صفة لازمة في كل مرحلة من مراحل تاريخ مابعد (الاستقلال ).
الموقف الثاني : أعلنه المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي والمغاربة يعيشون نفس الأجواء التي عاشوها اليوم حيث صياغة أول دستور مغربي لما بعد الاستقلال سنة 1962 ،يومها أرسل الخطابي رسالة من منفاه يضمنها لواعجه وزفراته مما يحاك للمغاربة تحت مسمى الدستور ، فقال رحمه الله في موقف واضح من الدستور الممنوح آنذاك في رسالته الشهيرة إلى الشعب المغربي : "إن المغاربة بتصويتهم على الدستور في شكله الحالي سيعيشون الشقاء " ،وفعلا عاش المغاربة الشقاء بفعل دستور لم يستشاروا في صياغته ولا في إقراره عاشوا سنوات الجمر والرصاص ،وعذبوا وسامهم وكلاء الاستعمار ومنفذوا سياساته الخسف، ومنعوهم النصف عاشوا القتل بالجملة والاختطافات والاختفاء القسري ، وغيرها من معالم مرحلة سوداء ليس من السهل أن تطوى ولا تروى وينساها التاريخ تحت أي مسمى أو ذريعة ولا أن ينساها المغاربة مهما شكلت لها اللجان ورفعت لها شعارات المصالحة وطي صفحة الماضي دون الكشف عن حقائق الماضي ومن المسؤول الأول عما وقع وكيف وقع ليصل البلد إلى تصالح بين المواطن ومؤسسات الدولة والبحث عن أسباب ووسائل إعادة الثقة المفقودة منذ زمن بين الشعب ومن يحكمه .
خلاصات
استحضارا لمعاناة الحركة الوطنية مع الدستور الممنوح ،ومعاناة القوى المطالبة بالتغيير اليوم مع ذات العقلية المخزنية الطامحة الطامعة في شرعنة سحب الإرادة الشعبية والهيمنة على كل شيء، يمكننا إذا ربطنا الماضي بالحاضر التاريخ بالمستقبل أن نخلص إلى خلاصات منها :
- الالتفاف على الإرادة الشعبية من خلال قطع الطريق على الحركة الوطنية وتغييبها عند وضع وصياغة دستور 1962 غاية استعمارية شرعن لها الاستعمار في الماضي بموجب هذا الدستور ليضمن استمرار وهيمنة ارادته ومصالحه .
- تغييب الإرادة الشعبية في دستور فاتح يوليوز 2011 قطع للطريق على الحراك الشعبي المتمثل في مطالب الحركة الشبابية ل20 فبراير والقوى المساندة لها في أن يضع الدستور جمعية منتخبة تمثل الشعب تمثيلا ديمقراطيا وبالتالي فهو تكريس لاستمرار نفس العقلية المخزنية المانحة التي سيرت البلد لأزيد من اربعين سنة وما عرفته هذه الفترة من ويلات أوشقاء بتعبير الخطابي رحمه الله .
.- الدستور الحالي لم يحز رضى أغلبية الشعب المغربي حتى بمنطق الإحصاءات والأرقام الرسمية إذا قمنا بقراءة موضوعية تستحضردلالة الأرقام وربط نسبة الكتلة الناخبة بنسبة المشاركة في التصويت وإذا استحضرنا السياق العام الذي يعرفه البلد الذي تم فيه وضع الدستور أوبالأحرى تمريره حتى وان لم نستحضرما صاحب ذلك من خروقات كالتصويت بالجملة بالنيابة واستغلال المال العام ووسائل الدولة والإعلام العمومي في الدعاية لوجهة نظر واحدة ،ومضايقات بالجملة على وجهة النظر المعارضة والمخالفة كما نشرت ذلك العديد من وسائل الإعلام المستقلة، وأكدته تقارير لهيئات وشخصيات اعتبارية سياسية وحقوقية محلية ودولية .
- حسب اعتقادنا إذا كان المراد من وضع الدستور في هذه المرحلة هو فرملة الحراك الشعبي والالتفاف على مطلب الدستور الشعبي الديمقراطي الذي يعتبر مطلبا تاريخيا للشعب المغربي وقواه الحية، فان هذا الشعب الذي رأى بأم عينه مدى التلاعب الحاصل في صناديق الاقتراع على الدستور الحالي يوم فاتح يوليوز لن يتم استغباؤه مرة أخرى، ولن يزيده ما رآه من تزوير لإرادته إلا إصرارا على التغيير ووضع حد للعبث بإرادته والمضي بخطى ثابتة في المطالبة بحق إشراكه الفعلي في اتخاذ القرارات الكبرى التي تهم البلد واختيار حكامه ومحاسبتهم متى لزم الأمر .