اشتهرت الأسرة الصديقية الطنجية بالاجتهاد والنبوغ في العلوم الشرعية بشتى تخصصاتها، وعرفت كتب أعلامها ورسائلهم ذيوعا وانتشارا منقطع النظير، ولقيت من الباحثين والمهتمين قبولا واستحسانا عزّ مثيله في مؤلفات غيرهم، ومن أعلام هذه الأسرة الشيخ محمد الزمزمي رحمه الله الذي انشطرت حياته إلى مرحلتين أساسيتين :
المرحلة الأولى : حيث كان متوافقا مع المنحى العلمي والتربوي لأفراد أسرته وعموم المغاربة، وفي هذه الفترة ألف مجموعة من الرسائل منها "الانتصار لطريق الصوفية الأخيار"، وكان يوقع مؤلفاته في هذه الفترة باسمه الكامل "محمد الزمزمي بن الصديق".
المرحلة الثانية : اختلف فيها مع المنهج العلمي لأشقائه وانفصل عن الزاوية الصديقية التي أسسها والده وأسس مسجدا خاصا به في طنجة، وأعلن مقاطعته لعموم أهل التصوف، وألف في هذه المرحلة مجموعة من الرسائل منها : "الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة"، وأعلن في هذه المرحلة براءته من أبيه وإخوته وجرد اسمه من نسبته إلى عائلته الصديقية واكتفى في توقيع كتبه باسمه "محمد الزمزمي" مع ما يتضمنه هذا التصرف من قطيعة للرحم يأباها الإسلام وتحذر منها تعاليمه، وقد تبنى في هذه المرحلة مجموعة من الآراء الفقهية الشاذة مثل دعوته إلى مقاطعة كل من يصفهم بأهل البدع، فألف كتابه "إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار الظالمين" لم يكتف فيه بالتنصيص على وجوب هجر العاصي فحسب بل أباح لعن من لم يمارس الهجر الذي عدّه من السنن المندثرة التي عزم على إحيائها في المجتمع، وكتابه هذا يصلح أن يكون أرضية إيديولوجية لأتباع مدرسة الهجرة والتكفير.
ومن شذوذه رحمه الله أنه أفتى بجواز الصلاة في المرحاض في رسالته " رفع الحرج والتعنيف عن الموظف الذي يضطر إلى الصلاة في الكنيف"، ولا معنى للضرورة هنا، لأن الجمع بين الصلاتين بنوعيه يغنينا عن الوقوع في مثل هذه الفتاوى، ومن أغرب آرائه الفقهية تجويزه لغسل الابن لأمه بعد وفاتها من غير ضرورة !!.
ولم يكن شذوذه رحمه لازما له ومنحصرا في دروسه ومؤلفاته، بل كان متعديا إلى غيره من أتباعه وخريجي مجالسه، وخصوصا بعض أنجاله – على تفاوت بينهم – وأشهرهم الأستاذ عبد الباري الزمزمي.
وأول ما ورثه عن أبيه أنه يوقع مقالاته باسمه المذكور أعلاه، حتى أن كثيرا من المتتبعين لا يعرفون علاقته بآل الصديق، مع أن اسمه الكامل المثبت في موقع مجلس النواب هو "عبد الباري بن الصديق"، ومن المحتمل أن يكون هذا التنكر لاسم العائلة استمرارا لبراءة أبيه من آله وذويه.
وللزمزمي الابن فتاوى وآراء لا تقل شذوذا عن فتاوى وآراء الزمزمي الأب، منها تبنيه – في معارضة لجميع الأعراف والشرائع - لجواز قتل الشخص لأكثر من مرة، وذلك ضمن رأي حول المهدي بنبركة وأمثاله من اليساريين بناء على تعدد "جرائمهم" في نظره، منها الخروج عن الدين والخروج عن الإمام وغير ذلك.
وللزمزمي الابن تقلبات يعسر فهمها وإدراك كنهها، فهو الرجل الذي كان مقربا جدا من العدالة والتنمية، وكان له عمود في "الراية" و"التجديد"، أضف إلى ذلك ركن الإفتاء، وكان يشارك ويحاضر في أنشطة الحزب والحركة على الصعيد الوطني، ولن أكون مغاليا إذا قلت بأن شهرة الرجل ذاعت أكثر بسبب هذين التنظيمين ومنابرهما، ومع ذلك نجده يقلب عليهما ظهر المجن وينعتهما بأقدح النعوت وأقذع الأوصاف، منها إطلاقه نعت "النذالة والتعمية" على الحزب المذكور في مخالفة صريحة لمبادئ الإسلام وأخلاقيات عوامه بله علمائه.
ومن شذوذه إفتاؤه بجواز شرب الخمر للمرأة في فترة الوحم، وهي فتوى غريبة لا سابق لها في كتب النوازل، وهي الفتوى التي انبرى للرد عليها وتزييفها الأستاذ رشيد نيني فك الله أسره، حيث رد على صاحبها ردا مفحما مبنيا على آراء العلم والطب، ولو كان للعلم محتسب لمنع الشيخ من الإفتاء مباشرة بعد هذه الزلة/الفتوى، ولو جارينا الأستاذ في رأيه لجوزنا للمرأة المتوحمة كل المحرمات، وهذا لا يقول به ذو مسكة من علم.
أما آخر غرائب الرجل وفتاويه، فهي قوله بجواز مجامعة الرجل لزوجته الميتة، وقد أثار حفيظة كل من اطلع على رأيه وناقشوه في عدد من المنابر حتى اضطر إلى توضيح ملابسات رأيه فبين أنه لم يُبده ابتداء وإنما هو سؤال وجِّه إليه، وهذا عذر أكبر من زلة، لأن مثل هذا الفهم هو الذي جعل كثيرا من كتب النوازل ملأى بما يسيء إلى الإسلام، ولنا أن ننظر إلى المعيار للونشريسي ونرى أجوبة العلماء على أسئلة من قبيل "من علق الطلاق على أكل أولاده الخبز في بيته لزمه إن أكلوه" "من حلف بالطلاق أن يبيع العسل بدرهمين فباعه بأكثر لزمه الطلاق" "من حلف بطلاق زوجته ألا تخرج من البيت سنة فاشتعل نارا وخرجت" .. وغيرها من الأسئلة التي لو اتخذها العلماء ذريعة لنصح السائلين وتوجيههم وبيان خطئهم لكان أجدى لهم وأنفع، لكنهم انساقوا وراء تلك الأسئلة وأجابوا عنها فكثرت النوازل المماثلة لها وساد التخلف الفقهي بمباركة الفقهاء أنفسهم ردحا غير يسير من الزمن.
ومنهج هؤلاء الفقهاء هو الذي سلكه الأستاذ الزمزمي في جوابه، وكان حريا به أن يربأ بنفسه عن تلك الإجابة، وأن يوضح للسائل أن السؤال عن هذه النازلة خارج عن السياق العام الذي يعرف حراكا اجتماعيا وسياسيا غير مسبوق، وأنه من المعيب مناقشة قضايا جزئية وتافهة والعالم يمور بالقضايا الكبرى.
ولما لم يفعل فضيلة الأستاذ فإن لنا وقفتان مع جوابه، أولاهما : قوله بالجواز أبان بجلاء عن منهجه الفقهي وانتمائه المذهبي، فهو ينتسب إلى المذهب الحَرْفي في فهم النصوص، حيث لم ينظر إلى مقاصد الجماع وأهدافه، ولم يراع لحظة الوفاة وألم الفراق وغير ذلك في تنزيل الحكم الشرعي. ثانيهما : تكلم علماء الشريعة عن الجماع ومقدماته وآدابه ولحظته، وأسهبوا في الحديث عن الغنج وحسن الهندام والمداعبة، وضمنوا ذلك كتبهم ومصنفاتهم ومنظوماتهم، وكل هذا يرتقي بالجماع إلى فعل إنساني نبيل ومتعة متبادلة بين طرفين متكافئين وينأى به عن البهيمية ويعطي معنى راقيا للحياة الجنسية للزوجين، أما أن يدخل الرجل على زوجته الميتة كلص مقتنص لفترة سُكون جسدها وعروج روحها ويضاجعها بطريقة لا تنم عن إحساس وذوق إنسانيين فهذا ما لا ترضاه الشرائع ولا يوافق عليه ذو حس وعقل، وقديما قال الإمام الشافعي : "لو أن الماء البارد في اليوم الحار ينقص من مروءتي ما شربته".
والغريب في أمر الأستاذ أنه يفتي في كل شيء غير مهم، أما الأمور المهمة والشديدة الحساسية فلا نكاد نجد له فيها رأيا يذكر، مثل رأيه في الاستبداد وفنونه وأصنافه وأربابه، والاستغلال البشع للمال العام ولثروات الشعب المغلوب على أمره رغم عموم البلوى بهذه الآفة، وقد يتذرع هو أو غيره بأنه لم يوجه إليه أي سؤال أو استفسار حول هذه القضايا وأمثالها، وهذا تعليل بارد غير مقبول خصوصا أن الأستاذ دأب على الخوض في مواضيع من غير أن يُرفع في شأنها سؤال إلى حضرته، ولا زلنا نتذكر مقاله المنشور في جريدة الأيام ردا على الراحل أبراهام السرفاتي الذي عبر عن حلمه في نظام جمهوري على أرض المغرب، ومقاله الآخر ردا على ندية ياسين التي مارس عليها حجرا فكريا حيث حظر عليها التعبير عن قناعة عبرت عنها، ولم يكلف نفسه عناء التضامن معها إبان محاكمتها رغم أنها لم ترتكب جرما ولم تقتل نفسا، وإنما حوكمت بناء على رأي فحسب، ولعل رأيها يعد جريمة في فقه الشيخ ومذهبه، وإن نسينا هذا وغيره لتقادمه فلن ننسى مقاله الذي كتبه على وجه السرعة بعد أن جاهر المهندس أحمد بن الصديق بخلع البيعة حيث رمى به عن قوس واحدة في رحاب الجاهلية.
كل هذه الآراء عبر عنها دون أن تبعث إليه – حسب علمنا – أسئلة بشأنها، لكننا نتجرأ على حضرته ونلتمس من فضيلته أن يدبج مقالا يضمنه رأيه وفتواه في شأن البرلماني الذي يتقاضى راتبا مهما من جيوب دافعي الضرائب دون أن يكلف نفسه عناء الحضور إلى البرلمان والقيام بواجبه في الرقابة والتشريع، وهل في ذلك إهدار وتبذير للمال العام أم في ذلك حكامة وترشيد ؟