كثيرًا ما يَذهب بعض "ٱلمُتحادِثين" (من أدعياء "ٱلحداثة") إلى أنَّ الكتابة بالعربيّة لا تكون مُجدِّدةً وتجديديّةً إلا إذَا قُطِعتْ، بهذا القدر أو ذاكـ، عن "ٱلتّقليد ٱلكتابيّ" المعروف والمُتعارَف فيها. فتَرَاهُم يَنْبَرُون لوصف كل مَكتوبٍ يُخالِفُ مُدَّعاهم هذا بأنَّه "قديمٌ" و"مُتقادِمٌ"، بل لا يَتردَّد بعضُهم عن وَصْمِ صاحبه بأنَّه "مُقلِّدٌ" و"مُتبِّعٌ" لِما عَفَّاهُ الزمان بِنَحوٍ يَجعلُه - حسب ظنِّهم- أَوْغَلَ في "ٱلقَدامة" وأَبْعَدَ عن "ٱلحَداثة".
وإذَا كان "ٱلتّجديدُ" مَنْشودًا و"ٱلتّقليدُ" مَذمومًا على العموم، فإنَّ ٱنتقادَ نمطٍ في الكتابة بنسبته إلى مُطلَق "ٱلتّقليد" وٱدِّعاءَ أنَّ خالِصَ "ٱلتّجديد" لا يكون إلا بالِانقطاع الكُلِّيّ أو الجُزئيّ عن كل "تقليدٍ" ليُعدُّ أمرًا مُريبًا، خصوصا أنَّ الذين يَأتُونَ مثل هذا ﭐلِانتقاد لا يَكادون يُميِّزون بين "ٱلتّقليد" كاجتهادٍ في ٱتِّباع ﭐلأُصول ﭐلمُؤسِّسة و"ٱلتّقليد" كحِرْصٍ على حفظ كُلِّ مَوْرُوثٍ أو مَأثُورٍ (حتّى لو كان مأثورًا مُحدَثًا كما في حالة "ﭐلمُتحادثين" الغارقين في تقليد كل ما صار مَأثُورًا عند ﭐلمُحدَثين أو عنهم!).
ومن أجل ذلكـ، فإنَّ ممّا يَجدُر ﭐلتّحقيق فيه ما يَدِّعيه "ٱلمُتحادِثون" من تجديدٍ في الكتابة بالعربيّة. وينبغي، ٱبتداءً، تأكيدُ أنّه ليس كل من تَحدَّث أو أكثر من الحديث في "ٱلتّجديد" و"ٱلحداثة" - وأيضا في "ٱلعقل" و"ٱلتنوير"- يُعَدّ بالضرورة مُجدِّدًا وحداثيًّا و، من ثَمّ، عقلانيًّا وتنويريًّا ؛ لأنَّ هناكـ طريقةً مُغالِطةً تَتمثَّلُ في إظهار نسبة شيءٍ ما إلى ﭐلنَّفس بالحرص على ٱدِّعائه أو إبداء ٱلِانتساب إليه بالتَّركيز عليه والدّوران حوله والإكثار منه حتّى لو كان ﭐلمُدَّعي أو ﭐلمُتشهِّي لا يَدَ له في ما يَنْسُبه لنفسه أو يَنتسب إليه، بل قد لا يكون عند ﭐلتّمحيص سوى دَعِيٍّ تابع أو مُستهلِكٍـ مُجْتَرٍّ. ولذا، فإنَّ المُعوَّل عليه، في الواقع ودائمًا، إنّما هو حُصول ٱلِامتلاكـ الفعليّ تمكُّنًا ممّا هو موضوع للطَّلَب بالتّوفُّر على (أيْ بتوجيه الهِمَّة لتحصيل) ما يُعدُّ وسائلَ مُقرَّرةً وإجراءاتٍ مُحدَّدةً لبُلوغ غاياتٍ مطلوبة و، بالتالي، إعمال ما هو مُتاحٌ وموجودٌ لابتكار ما هو مُمكنٌ ممّا يَصلُح ويَنفعُ. فلا تجديدَ بمُجرد ٱلِادِّعاء وﭐلتّشهِّي كما هو غالبٌ على "ﭐلمُتحادِثين"، وإنّما "ﭐلتّجديدُ" بُلوغُ الغاية في ٱلِاجتهاد لابتكار وإنشاء ما يَصلُحُ ويَنفعُ، سواء في العاجل أو في الآجل.
وحينما نأتي إلى ما يَدَّعيه "ٱلمُتحادِثون" بين ظَهْرَانَيْنَا، فإنّنا نَجِدُ أنَّ أشدَّ ما ٱبْتُليت به "ٱلعربيّةُ" وُجودُ أُناسٍ يُلْقُون الكلامَ على عواهنه ويَأتُون "ٱللَّغْوَى" بلا قيدٍ ولا شرط بحيث تَراهُم لا يَتردَّدُون عن إرسال الأحكام من دون تبيُّن ولا تدليل. وإلا، كيف يُعدّ مُجدِّدًا من يَكثُرُ الخطأُ على لسانه أو يَجري قلمُه بسَيْلٍ من الأغلاط كُلَّما رام قولا أو أَتى مكتوبًا؟! كيف يُمكن أنْ يُقبَل كلامُ من يسهو عن تنقيح ملفوظه أو مكتوبه فيَقترفُ من ضُروب ٱللَّحْن وسُوء التّأليف ما لا يَستقيم في منطق العقول ولا تقبله أُصول النّاطقين، بل ممّا تَمُجُّه أسماعُهم وتَعافُه طباعُهم؟! وكيف يَصِحّ أنْ يدَّعيَ "ﭐلتّجديد" مَن لَمْ يُحكِمِ ٱللِّسانَ المُستعمَل ولم يَبلُغِ ﭐلغايةَ في إجادته؟! أليس من ٱلسُّخْف المرذول أنْ يَتكلَّم في "ﭐلتّجديد" أُناسٌ لَمَّا يَمْلِكوا زِمامَ ﭐللُّغة ولا حَصّلوا سُبُلَ المنطق؟! وكيف لمثل هؤلاء أنْ يُشرِّعوا أبواب القول بيانًا أو يُوطِّئُوا طرائق الفكر تَبيُّنًا؟! أليس من العيب الشّائن أنْ يَتقحَّم المُتقحِّمون والمُنْبتُّون مَيادين ما لا يُحسنون؟!
لذلكـ، لا يَخفى أنَّ مُعظمَ ما يَلُوكه "ﭐلمُتحادِثُون" من كلامٍ في "ﭐلتّجديد" ليس سوى تضليل يُرادُ به ﭐلتّستُّر على فُسولتهم الفكريّة وقُصورهم "ﭐلإنشائيّ"، من حيث إنّهم لا يكادون يَأتُون بجديدٍ تفكيريٍّ أو بديعٍ تعبيريٍّ يَستحقُّ أنْ يُشهَد لهم به، ﭐللّهم إلا ما كان من ﭐجترارِ نُتَفٍ من الفكر الغربيّ والتّلاعُب بألفاظ رنّانةٍ أُسيء تعريبُها فلا تُبِينُ إلا في ﭐرتباطها بأُصولها الأعجميّة!
وفيما وراء ذلكـ ﭐلمَسعى البائس، نجد أنّ النّظر في "ﭐلتّجديد" يَقتضي - على الحقيقة- تقريرَ أربع مُسلَّمات:
أ- أنّه لا سبيل إلى "ٱلإبداع" كإنشاءٍ من لا شيء وعلى غير مثالٍ سابقٍ، لأنَّ "ٱلإبداع" بهذا المعنى حقٌّ للّـه وحده ومُمتنعٌ على البشر بإطلاق، فلا يَدَّعيه إلا ﭐلمُتألِّهُون الذين لا يستطيعون - في الواقع- أنْ يَخلُقوا ذُبابًا وهُم يُخلَقُون من حيث لا يشعرون!
ب- أنَّ الأصلَ في فعل الإنسان نوعٌ من "ٱلتّقليد" المُرتبط بكونه لا يَكتسب القدرةَ على التّصرف إلا بمُحاكاةِ ومُتابَعةِ من هم أسبق وأقدر منه الذين يُلقِّنُونه، بشكل مباشر أو غير مباشر، "كيفيّات السلوكـ" التي تَصيرُ عاداتٍ له من خلالها تُسوَّى طباعُه ﭐجتماعيًّا وثقافيًّا كـ"مَلَكاتٍ" أو "مَهاراتٍ" في هذا المجال أو ذاكـ ؛
ت- أنَّ كُلَّ أصلٍ مَورُوثٍ ثَبتتْ فائدتُه في الحاضر، فهو واجبُ ٱلِاتِّباع حتّى لو بدا تَقليديًّا، من حيث إنَّ التّردُّد في قَبُول أيِّ أصلٍ لِمُجرَّدِ أنّه موروثٌ من الماضي من شأنه أنْ يُوقِعَ إمّا في "ٱلعَطالة" (لاستحالة العمل مُطلقًا من دون أصل) وإمّا في "التّبعيّة" أخذًا بأصلٍ آخر مُورَّثٍ في الحاضر (بفعل وراثةٍ ﭐجتماعيّة وثقافيّة مجهولة أسبابها داخل وخارج نفس الفاعل ﭐلِاجتماعيّ) ؛
ث- أنَّ كُلَّ ما لم يُبْنَ على أصلٍ مَعروفٍ أو مَعقولٍ، فهو بِدْعةٌ مَردودةٌ على صاحبها (أو أصحابها)، لأنَّ كُلَّ ما لَمْ يُبْنَ على شيءٍ من "ٱلمَعارِف ٱلمُشترَكة" يبقى أقرب إلى "ٱلباطل" المَهزوز، وكُلَّ ما لم تَشهد له أسانيد مُدرَكة لا يَستقيم في العُقول ؛
إنَّ تقريرَ هذه المُسلّمات يَجعلُ ٱستعمالَ "ٱللُّغة" غيرَ مُمكن إلا على أساس ٱمتلاكـ "ٱلأُصول" المعمول بها في مجالٍ تداوليٍّ مُعيَّن، بحيث يَمتنعُ كل تجديد يُفهَمُ كخُروج كُليٍّ على "ٱلأصول" الظاهرة أو الباطنة المُحدِّدة بالضرورة للفاعليّة اللُّغويّة تاريخيًّا وﭐجتماعيًّا. وعلى الرغم من أنَّ تقرير هذه المُسلَّمات يأتي نتيجةً لما هو مشهود في واقع الممارسة اللغويّة بكل المجتمعات البشريّة، فإنَّ "ٱلمُتحادِثين" قد يَرون فيه تعسُّفًا يُراد به إلزامُهم بما يَتهرَّبُون منه. غير أنَّ كونَهم أُناسًا أُشْرِبت أنفسُهم فكرةَ أنَّ «ﭐلتّجديدَ إحداثٌ غير مشروط بإطلاق» هو الذي يَجعلُهم لا يُدركون أنَّ الجهل بأسباب الضرورة التي تَسكُنهم هو وحده الذي يُبرِّر تَعلُّقَهم بكل ما هو "مُحدَثٌ" كما لو كان يَأتي (أو يُؤتى به) من عدم محض. ولذا، تَجِدُهم مَيّالِين إلى الأخذ بكل ما تبدو عليه مَسْحةُ "ٱلجديد" من دون أيِّ تَبيُّنٍ كافٍ من لدنهم في الشروط المُحدِّدة لوضعه وﭐستعماله. وبهذا، فهم يُثْبِتُون لا فقط مدى عجزهم عن ﭐلإتيان بالجديد المُبتكَر فعلا، وإنّما أيضا تَعثُّرَهم في فهم أسرار "ﭐلإنشاء" و"ﭐلِابتكار" كما تَتحدَّدُ تاريخيًّا وﭐجتماعيًّا.
وبما أنَّ الأمرَ يَتعلَّقُ بالكتابة في العربيّة، فإنَّ ما يَنبغي تأكيدُه (والتأكُّد منه) أنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" - تمامًا مثل غيره من الألسن- يَتحدَّد كنسقٍ لُغويٍّ له قواعدُه التّصريفيّة والتّركيبيّة والدلاليّة والتّداوليّة التي لا يَصِحُّ ٱستعمالُه من دونها. وإذَا كان "ٱلمُتحادِثون" لا يَجرُؤون على "تعدِّي ٱلحدود" حينما يُضطَرُّون إلى ٱستعمال ألسنٍ أُخرى، فإنَّ تَهاوُنَهم أو ٱستخفافَهم بشأن "ٱللِّسان ٱلعربيّ" يُعدُّ من قِبلِهم إخلالا بواجبٍ يَزْدَوِجُ بإساءةِ تَصرُّفٍ، وكلاهما أمران يَقدحان في جدارتهم المِهْنيّة كمفكرين وكتاب، من جهة قُوّة مَلَكتهم في العربيّة، وأيضا من جهة مدى جديّتهم وهم الذين لا يَفتَأُون يَدَّعُون القُدرة على ٱبتكار بَدائعَ في الفكر والقول تُؤهِّلهم، حسب زعمهم، لتجاوُز أقرانهم السالِفين والحاضرين.
ومن ثَمَّ، فإنَّ المرءَ ليَعجبُ كيف أنَّ "ٱلمُتحادِثين" بيننا يُذْعِنُون أيَّما إذْعانٍ لقواعد الألسن الأجنبيّة، في حين يَبْدُون مُتساهِلين جِدًّا إزاء كل أنواع ٱللَّحن والغلط التي يَقترفونها في أثناء ٱستعمالهم للعربيّة. وأكثر من ذلكـ، فإنَّهم لا يَستنكِفُون في تبرير ما يَصنَعُون عن القول بأنَّ "ٱللِّسان ٱلعربيّ" يقف دون الألسن الأُخرى، لكونه - في ظنّهم- لسانًا عتيقًا وجامدًا بفعل ٱرتباطه بـ"ٱلنّص ٱلمُقدَّس" ٱلذي يَزعُمون أنّه يَحظُر كل تجديدٍ في "ٱللُّغة" لكي يَحفَظ "ٱلكلامَ ٱلإلاهيَّ" في كماله وصفائه. وهم بهذا إنّما يَدُلُّون على جهلهم بحقيقة علاقة "ٱلقرآن ٱلكريم" باللِّسان ٱلعربيِّ، إِذْ لو أنّهم ظهروا على عُمق ﭐلِانقلاب البيانيّ الذي أحدثه "ٱلوحيُ" في ٱستعمال العربيّة، لَمَا وجدوا طريقًا لإرسال مثل ذلكـ الحُكْم الذي يُغْفِلُ أنَّ نص "ٱلقرآن" كان مُجدِّدًا على كل المستويات بالقدر نفسه الذي كان عاملَ تَجديدٍ في ﭐللُّغة والفكر على سواءٍ. ومن أنكر هذا، فلن يَستطيعَ تفسير كل التّحوُّل الذي عرفه "العرب" و"المُتعرِّبون" من المسلمين بعد قيام الإسلام وﭐنتشاره في كل بقاع الأرض.
لكنْ يبدو أنَّ "ﭐلمُتحادِثين" لا يُبرِّرُون تعاطيَهم المُنحرف في ﭐستعمال العربيّة بالتّهجُّم عليها في صلتها بالقرآن إلا لأنّهم يُريدون - وهم أدعياء "ﭐلإبداع"- قَطْعَ "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" عن لُغة "ٱلوحي" ليَسهُلَ عليهم تسويغ مُدَّعاهم في ﭐلإتيان بما يَتجاوُز "ﭐلبيان ﭐلقرآنيّ ﭐلمُعجِز". وإنَّ حرصَ "ﭐلمُتحادِثين" على التّظاهُر بـ"ﭐلتّجديد" وٱدِّعاء "ﭐلإبداع" ليُؤكِّد أنَّ ما يَنْفُونه من القداسة عن النّص القرآنيّ يُريدون إثباتَه لأنفسهم فيما يَختلِقُونه من نُصوص يَرون فيها مُنتهى "ٱلجِدّة" و"ٱلتّفرُّد"!
إنَّ ٱستواءَ "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" لسانًا يَكفُل "ٱلإنشاءَ" الفنّيّ البديع، كما وصلنا في الشعر الجاهليّ وكما واصله النّصُّ القرآنيُّ، ليَجعلُ منه لسانًا قائمًا بصفته وسيلةً بنائيّةً وتعبيريّةً تَقبَلُ ﭐلِاستعمالَ في حُدود إمكانات ﭐلنَّظْم وﭐلتّوليد التي تُقوِّمه بما هو لسانٌ إعرابيٌّ له خصائصه المُميِّزة تصريفيًّا وتركيبيًّا وتدليليًّا. ومن هذه النّاحيَة، لا ريب أنَّ "ٱللِّسان ٱلعربيَّ" يُتيحُ لمُستعملِيه ما يُتيحُه أيُّ لسان آخر توفَّرت له كل الشروط المُناسبة لاكتسابه وٱستعماله بشكل قويم. فلا شيء، إذًا، يَمنَعُ - من النّاحيَة النّسقيّة- "ٱلتّجديدَ" في "ٱللِّسان ٱلعربيّ" أو يَحُدُّ لُغويًّا من القُدرة على ٱلتّعبير الإنشائيّ به، وإنّما ﭐلْمُصيبةُ كُلُّها قائمةٌ في أُناس يَحْرِصُون على الظُّهور إحداثًا بلا شرط وتَحادُثًا من دون أثر. ولذلكـ، تَراهُم لا يَتوَانَوْنَ عن إلقاء ﭐللَّوم على "ٱللُّغة" حيثما أعجزتهم الحِيَلُ عن تسويغ مَناقصهم في ٱلنَّظْم ٱلتّأليفيّ وٱلتّشقيق البيانيّ.
وإنّهم، بهذا الخصوص، ليَأْتُون بأعاجيب لا سُلطان لهم عليها غير التّحكُّم والتّشهِّي. أفلا تراهُم كيف يَضعُون الألفاظ تَعريبًا يَحرص على حِفْظ الرّطانة الأعجميّة ولا يَلتفتُ إلى ﭐلِاتِّساق الصوتيّ والصرفيّ الخاص باللِّسان العربيّ؟! ألَيْسُوا هم الذين يَعملُون على تعنيف هذا ﭐللِّسان في تركيبه وتصريفه ومعجمه لكي يَستويَ وَفْقَ قوالبِ وٱتِّفاقاتِ الألسن الأجنبيّة من دون مُراعاة ﭐلفُرُوق الثّابتة بينه وبينها؟! ألا تَجدُهم أحرصَ النّاس على النّقل الحرفيّ فيما يُترجمون وألصقَهم بالقُشُور فيما يَجترُّون؟! فكيف يُستساغُ ما يَدَّعونه من تجديدٍ في هذا ﭐللِّسان وهم الذين لا يَعمَلُون إلا على ﭐستعماله بشكل فاسدٍ ومُفسدٍ؟!
حقًّا، إنَّ "ﭐلمُتحادِثين" لَيَبْدُون -في ٱستخفافهم بنسق "ٱللِّسان ٱلعربيّ" وٱستسهالهم للبناء به إنشاءً وٱبتكارًا- أعجزَ النّاس عن إتيان الكتابة بالعربيّة على نحوٍ تجديديٍّ ومُجدِّدٍ، من حيث إنّهم لا يرون في ٱستعمال "ٱللِّسان ٱلعربيّ" غير التّخريق والتّرتيق كيفما ﭐتّفق لهم. والحال أنّه لا سبيل إلى "ٱلتّجديد" في ٱستعمال هذا ٱللِّسان إلا بالإحاطة بأسراره وٱلتّمكُّن من دقائقه لمُضاهاةِ ﭐلمَهَرةِ في فُنون القول والفكر من القُدامى والمُحدَثين. وأنّى لمن يقف دون إتقان "ٱللِّسان ٱلعربيّ" أنْ يَشرئِبَّ لشيء من ذلكـ، ما دام الإنشاءُ بناءً موصولا بما ٱستقرَّ نسقيًّا في سَنَن ٱلِاستعمال ٱللُّغويّ فصار مُحتاجًا إلى من يَجتهدُ لتجديد تخريجه وإظهاره كأنّه إنّما يَبتكرُ صُنْعَه ولا يَستأنفُ وَضْعَه.
وهكذا، ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنْ من يَنْبرِي للكتابة بالعربيّة ٱبتكارًا مُجِدِّدًا ونُبوغًا مُبَرِّزًا مُطالَبٌ بأنْ يَبلُغَ الغايةَ في إجادة "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" وأنْ يَجتهدَ وُسْعه في الإنشاء به نَظْمًا مُتَّسقًا وبناءً مُحْكمًا بعيدًا عن الشّائع من ضُروب ﭐلِاستسهال وﭐلِاستعجال التي تَجعل المُنْبتِّين من مُستعملِيه يُخِلُّون بكثير من الشروط المُقوِّمة للتعبير به تصريفًا وتركيبًا وتدليلا. فليس من ﭐلِاستعمال التّجديديّ للعربيّة أنْ يُحرَّف شكلُ الألفاظ لحنًا أو تَلحينًا (عدم التّمييز، مثلا، بين "عِلاقة" و"عَلاقة" وبين "مُختلِف" و"مُختلَف"!)، ولا أنْ يُعدَّى الفعلُ بغير ما يُعدَّى به أصلا ("أَكدَّ [عليـ]ـهُِ" و"قَطعَ [معـ]ـهُ" و"قال [على] إنّه"!)، ولا أنْ يُستكثَر من ٱلرّطانة بالألفاظ المُعَرَّبة تعريبًا فاسِدًا ("إيديولوجيا" و"إپيستمولوجيا" و"پراديغم"!)، ولا أنْ تُعنَّفَ ﭐلصِّيغُ والتّراكيبُ في "ﭐللِّسان ﭐلعربيِّ" لتُوافقَ ما يَختص به غيره (ٱستعمال "هُو" كرابط إسناديٍّ أو تأنيث المُذكَّر أو العكس!).
وإذا كان ذلكـ مُبتغى أدعياء "ٱلتّجديد ٱلمُتحادِث" من ٱستعمال ٱلعربيّة، فإنّ المُؤكَّد بلا أدنى شَكٍّـ أنَّ الأمر لا يَتعلَّق إلا بتقليدٍ مَدْخُولٍ يُحاكِي ضُعفًا المَأثورَ عن ٱلْمُحدَثين بما يُوقِعُ أصحابَه بعيدًا عن "ٱلتّجديد ٱلمَوْصُول" الذي يَصبُو أهلُه إلى ٱستئنافِ ٱلبيان ٱلعربيّ بِناءً قويًّا ومُبتكرًا من دون كثير ٱدِّعاءٍ ولا بالغ إطراءٍ.