البلاد بحاجة اليوم إلى كمية كبيرة من الأكسجين السياسي حتى تخرج من حالة الاختناق التي أصابت السياسة، وجعلت رحاها تدور في فراغ لعدة سنوات مضت، ولهذا فإن التحضير الجيد للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، والتنزيل الديمقراطي للدستور الجديد يحتاجان إلى درجة كبيرة من الانفراج السياسي حتى يعود الأمن إلى النفوس في إمكانية ولادة مشروع انتقال ديمقراطي جديد في عز الربيع العربي للديمقراطية الذي نزل ضيفا على العالم العربي منذ ستة أشهر.
أمام هذه الحاجة إلى مناخ سياسي وحقوقي واجتماعي وإعلامي جديد تتصرف السلطة، ووزارة الداخلية على الخصوص، كالأطرش في الزفة.. وتتحرك عكس التيار بشكل يبعث على الاستغراب، فقرار الداخلية الأخير جر الصحافيين إلى مخافر الشرطة وردهات المحاكم لأنهم كتبوا أو نقلوا كلام السياسيين عن ضرورة تغيير عدد من الولاة والعمال في الإدارة الترابية لوجود شبهة حول علاقتهم بحزب الجرار.. قرار مثل هذا لن يساعد في شيء على خلق مناخ جديد لإنعاش الثقة في المسلسل السياسي الذي دخله المغرب جوابا عن مطالب التغيير الملحة في الشارع، والذي مازال يتحرك ويصرخ ويطالب بجرعات أكبر من دواء الإصلاح.
التناقض الموجود بين خطاب الدولة الرسمي الذي يبشر بالكثير من الإصلاحات، وسلوك السلطة على أرض الواقع، والذي ينفر من الأمل في ميلاد نموذج مغربي في التغيير.. هذا التناقض لا تفسير له سوى أن هناك انقساما ملحوظا في جهاز الدولة حول أسلوب إدارة المرحلة المقبلة، فهناك اتجاه مع الانفتاح السياسي ومع التأويل الديمقراطي للدستور، ومع التكيف مع المرحلة الجديدة، وهذا الاتجاه واع بأن البلاد ربحت جولة في معركة التغيير، لكن الحرب لم تُحسم بعد، والمغرب لم يخرج من دائرة الخطر، فالرأي العام ينتظر ماذا سيخرج من علبة الدستور الجديد من قرارات وسياسات ونخب وحكومات وبرلمانات تنعكس إيجابا على حياته اليومية. في مقابل هذا الاتجاه هناك آخر مازال مترددا في ركوب القطار الجديد، وهذا ما يجعل سلوكه مطبوعا بالأختام الأمنية القديمة، وعقلية التوجس من التغيير. هذا التناقض في قلب جهاز السلطة يزيد أكثر مع شلل الحكومة وعدم قدرة رئيسها على الحسم، فالسيد عباس الفاسي لا يتصرف بالمطلق كرئيس حكومة مسؤول عن إدارة المرحلة الراهنة، فكيف يعقل أن تنخرط جريدته يوميا في سب ولعن حزب الجرار، ومطالبة الداخلية بإبعاد الولاة والعمال الذين تحوم حولهم شبهات الارتباط بحزب «البام»، وفي الوقت نفسه يقوم وزير داخليته بجر الصحافيين إلى القضاء لأنهم نقلوا كلام شباط ونبيل بنعبد الله وعبد الإله بنكيران وآخرين حول نفس الموضوع.