كان سبتا حارا للغاية، عملنا فيه لظروف استثنائية فقط ...وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة بعد الزوال عندما خرجنا أنا وزميلتي من العمل...ركبنا الحافلة وهي خاوية من ركابها...كنا نجلس كميتة مرسلة إلى منازلها...لا نتحرك ولا نتكلم قبل أن تتوقف الحافلة بمحطة تقرب سوقا أسبوعيا مشهورا...
أخذت الحركة تدب في الحافلة...روائح النعناع والبصل وغيرها من الخضر والفواكه تتمازج لتقدم لنا عطرا يصعب مقاومته...فجأة رمقت جسدا ضخما يحاول الركوب...كانت سيدة سوداء عملاقة...عيناها الكبيرتان تكادان تخرجان من مكانيهما...ترتدي لباسا تقليديا أبيضا وتنتعل حذاء رياضيا أسودا...تضع منديلا أبيضا فوق رأسها مبرزة أذنيها وكأنها تهم بتقشير كمية كبيرة من البطاطس...اقتحمت الحافلة وبدأ مسلسل الرعب والترويع...جسدي المنهك استعاد نشاطه وأفرز كميات كبيرة من الخوف...فبمجرد أن وطأت قدماها الحافلة بدأت في إعطاء الأوامر بصرامة للركاب...هيا قم أنت احمل الخضر...هيا قم أنت وساعده مازلت تتفرج...انهض أنت من مكانك لأجلس أمام الباب...ضع أنت الخضر أمامي هنا وإياك أن يسقط أي شيء.. سأهشم رأسك...كان الجميع ينفذ الأوامر دون أن ينبسوا بحرف واحد...أحسست بأنهم مشدوهين من هذا الكائن النسائي الغريب...
أما أنا فكنت اختلس النظر وأحذر زميلتي: إياك أن تلحظ أنك تنظرين إليها وإلا فإنه في أحسن الأحوال ستسمعنا من قاموسها النابي ما لم يخطر لنا على بال وسنصبح نكتة في الحافلة...وفي أسوء الأحوال ستنزع حجابي وستريش شعرك وستلقي بنا من نافذة الحافلة لنكون زربية للسيارات والدراجات والشاحنات و...كانت لا تتوقف عن السب والشتم...
كان في الحافلة الكثير من الشبان معظمهم يشتغلون في البناء يقفون في صف طويل...لكنها اصطفت أحدهم بالضبط ليكون فريستها...أخذت تسبه وتسمعه كلاما سيئا وهو مطأطأ الرأس ...وجهه متجهم وهو عاجز ليس بيده شيء أمام هذه المقدسة التي لا تنتهك أنوثتها قط...قالت له: "تقولون أن مدينتنا سيئة فلماذا تأتون إلينا لتشتغلوا هنا، ارجعوا إلى قراكم يا أبناء الجوع"....كانت كلماتها تقطر عنصرية آلمتنا أكثر مما آلمت ذلك العامل سيئ الحظ في ذلك اليوم...لكن من يستطيع أن يقف في وجهها ويقول لها لا للعنصرية...من هذا الرجل الشهم الذي سيقوى على مواجهة عملاقة لا تخشى أحدا وليس لديها شيء تخشى عليه...لقد حولت الحافلة إلى حلبة مصارعة...لكن من يقوى على مصارعتها؟..من؟...
فلو كان المصارع راندي اورتن في الحافلة لاستغثنا به لينفذ ضربة الاركيو حيث سيأخذ رأسها ويضربه في كرسي الحافلة لنرتاح من تسلطها... أو أن جون سينا مثلا ركب فجأة ليصرعها وينفذ حركة التهذيب لتهتف جماهير الحافلة فرحا وشغفا بهذا النجم كما يهتف له جمهوره في راو...لكنها أحلام ليس إلا...فليس في الحافلة أحد يقوى على مصارعتها ولو بكلمة...ولو بنظرة تقول لا...أقصى ما صرعناها به هي قلوبنا التي ترتجف وتقول اللهم إن هذا منكر...
همت فتاة بالنزول بعد أن توقفت الحافلة ...فضربتها بيدها وعلقت على تفاصيل جسدها بسخرية لا تخلو من كلام سوقي فعم الضحك أرجاء الحافلة، ...كنت أنا أرتجف خشية أن لا تنزل قبلي ليكون مصيري حينها مشابها لتلك الفتاة المسكينة...لكن الله شاء أن يحفظني من شرها...فأمرت السائق بالتوقف في مكان يحظر التوقف فيه...فاستجاب طبعا، ونزلت بأكياس الخضر الثقيلة وبطيختها الكبيرة الشاهدة على مأساوية ذلك المساء...وطبعا نزولها كان بمساعدة الركاب الذين استعبدتهم بضخامتها وطغيانها...
عدت للمنزل والفضول ينخر ذاتي...من تكون هذه المرأة؟ وما قصتها؟...مضت الأيام لتشاء الصدف أن أراها مجددا...لكن هذه المرة لم تكن في الحافلة...لقد وجدتها في السوق تفرش في الأرض حصيرة صغيرة وتضع أمامها السواك...قلت لإحدى قريباتي فلنجتنب المرور أمامها وسردت لها قصتها في الحافلة...فضحكت وقالت: "إنها مليكة ... مشهورة جدا، تبيع السواك منذ مدة طويلة...تستقطب زبوناتها بالغزل تارة وبالعنف اللفظي تارة أخرى...ولها ضفيرتان طويلتان جدا وساحرتان"...والأجمل من هذا كله أن الآنسة مليكة تحضر في نفس المجلس الذي تحضره قريبتي يوم الجمعة...وهو مجلس ديني تشرف عليه مريدات زاوية معروفة بالمدينة...ومليكة مريدة مواضبة في الزاوية...تفضل غلق دكانتها المتنقلة كل يوم جمعة...لتجلس في مجلس الذكر الذي تردد فيه الأناشيد الدينية مع النساء وتشاركهن شرب الشاي وتأكل الكسكس إذا حضر...لكنها تخالفهن في أمر واحد فقط ...فإذا أقيمت الصلاة حضرت أوجاع البطن وما جاورها واعتذرت عن آداء الفريضة...