غريب أمر المغرب: ساحر للسياح الباحثين عن الغرابة وكل ما ندر، آسر لعلماء الأنثروبولوجيا في بحثهم عن وقائع حية، مثير لاهتمام علماء السياسة في سعيهم إلى إيجاد مبررات عقلانية
لنظام تقليدي. بلدنا فعلا متمرد عن كل تصنيف، ويرفض أن يحصر في نموذج معروف سلفا. يصعب، تماما مثل الواقع السياسي، الحفر في تعقيداته أو تحديد ملامحه.
الواقع السياسي في المغرب يتسم بغموض وتعقيد يحعلان الملاحظ، في حالة عدم إنذاره، يوشك أن يقع في التوصيفات الأقل إفادة ويخلص إلى استنتاجات أقل أهمية. يجب، إذن، عدم الاكتفاء بالانطباع الأول وتفادي التوقف عند حدود القراءة الأولى، فالمغرب بلد تـُفعل فيه آليات التحليل السياسي الكلاسيكي بسهولة، غير أن البحث عن أسس العمل السياسي، والحياة السياسية فيه بشكل عام، يقود بسرعة إلى فضاءات تعكس فيها قواعد اللعبة والدوافع المتحكمة فيها عقلانيات اجتماعية متذبذبة وتفصل بينها حدود يعسر رسمها.
1 - ديكور حديث وواقع سلفي
يتمتع المغرب بقوانين وبرلمان وأحزاب سياسية ونقابات وهيئات متعددة، غير أنه لا ينبغي الاستئناس بهذه اليافطات المألوفة في العالم الحديث للوصول إلى استنتاجات متسرعة عن الأسلوب الذي تمارس به السلطة في المغرب. ففي الواقع، تخفي الواجهة الأمامية للنظام المغربي نسقا سياسيا قائما على علاقات شخصية وولاءات فردية.
لا مكان في المغرب لتوزيع المسؤوليات والواجبات، على طريقة الديمقراطيات العريقة، والتي تتأسس عليها نظرية التعددية داخل المجتمع. وتفترض هذه المقاربة سلفا أن مبدأ التمثيلية التعددية واقع يقوم على اتفاق مسبق حول أنماط رسم حدود الحكم وتعاقده مع المواطنين، وهو أمر لا يدخل ضمن جدول الأعمال في المغرب.
في الواقع، نادرا ما يترك المجال للمغاربة لينسوا وجود المخزن وهيئاته السياسية القوية للغاية والتي لا يتمتع المواطن، في حال مواجهتها، بأي وزن. كما أن فئات عريضة من المغاربة تجد صعوبة في التمييز بين مفهومي الرعية والمواطن، ولهذا السبب لا تتوفر إلا على فكرة فضفاضة عن اللجوء إلى المساطر الديمقراطية لتغيير الأشياء.
في نهاية المطاف، يعطي المغرب الانطباع بالانتماء إلى عالم لا ينتمي إليه في الواقع بالنظر، والسبب أن نمط تدبير الحياة السياسية في المغرب يتسم بتفاوت كبير بين الخطاب والممارسة، ولذلك تبدو الأشياء مغايرة تماما في الواقع.
وخلف أسلوب قيصري-ليبرالي، تخضع بنية السلطة في المغرب لمنطق لا يقبل من التغيير إلا ما يضمن احتفاظها بمجال تأطير مختلف طوائف المجتمع. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في واجهة حكمٍ قائم على ولاءات فردية لصانع القرار.
التمثيلية السياسية موجودة، في النصوص بطبيعة الحال، غير أن الاعتقاد بأنها تحدد معالم الحياة السياسية ضرب من الخيال.
2 - اقتصاد «ليبرالي» ينشط الريع ويطبعه الجشع
انتماء المغرب إلى «اقتصاديات السوق» هو مجرد وهم وثاني الأساطير التي تسهم في محو المسارات. فرغم كل ما كتب وقيل عن هذا الموضوع، فإن تعريف وتحديد معالم الاقتصاد المغربي يطرحان مشاكل عديدة للأجانب وللمغاربة أنفسهم.
ورغم أن المغرب راهن على اقتصاد السوق منذ بداية سنوات الستينيات، فإن الدولة المغربية ظلت حاضرة بقوة في الحياة الاقتصادية، فبالإضافة إلى التدابير الكلاسيكية التي اتخذتها من قبيل تدبير الجبايات وتشييد البنيات التحتية وإصدار وتدبير العملة، لعبت الدولة دور المقاول الأول والمشغل الأول والبنكي الأول.
باختصار، كانت الدولة تغطي، بتدخلها الواسع، كامل الفضاء الاقتصادي. ولم تكن «دولة متواضعة» كما يفرض ذلك المنطق الليبرالي، ولكنها كانت تضمن عبر حضورها الفعلي ضبط المجتمع.
ويجب الاعتراف بأن ضعف الرأسمال الخاص في العقدين الأولين بعد الاستقلال وتوهج البنيات الاجتماعية يفسر أسباب بقاء المجتمع ملتصقا بالدولة. ويترجم هذا الحضور القوي للسلطة في الاقتصاد رغبتها في تأطير مجموع مكونات المجتمع، وبالتالي قيادة مسلسل توزيع الريع والامتيازات والمواقع الاجتماعية. أليست هذه اللوحة كاريكاتورية؟
ما يعصف بنا ويصدمنا في آن واحد هو كون هذا النقاش يظل مقيدا بمجال تحكمه الميولات الطبيعية للنخبة السياسية الأقل انشغالا بتحديات اللحظة ومعطيات المؤسسات السياسية، التي فقدت مسوغات وجودها منذ مدة طويلة. ولم نعد نبحث عن إيجاد حلول لمشاكل في العمق، وإنما بتنا ننحصر في إصلاحات تجميلية، أي أننا أصبحنا نقوم بالدعاية لا غير.
إدريس بنعلي (محلل اقتصادي وسياسي)