لماذا نكتب ؟ .

كثير من الناس يكتبون ... ويكتبون... مقالات أو قصصا أو روايات أو قصائد شعرية متنوعة ذات أبعاد وأغراض , قد تكون هادفة عن قصد أو عن غير قصد كذلك . والغريب في الأمر أن هناك صنفا آخر من هؤلاء الكتاب لا يعرفون لماذا يكتبون ؟ وفي بعض الأحيان لا يقصدون في مؤلفاتهم نوعا أو طبقة معينة من القراء المستهدفين . ليبقى السؤال الغامض في الكتابة والتأليف والنشر بصفة عامة : لماذا نكتب ؟ .
من هذا المنطلق المتواضع والذي لا اعتبره جامعا مانعا , أدلي بدلوي لعلي , احمل فيه ماء زلالا , اروي به عطش القارئ الولهان , الشغوف إلى امتصاص أي حرف هجائي في أي سفر من أسفار الفكر الإنساني الراقي . إن مثل هذه المؤلفات الخالدة في تاريخ البشرية بصفة عامة التي تحمل بين صفحاتها وصفا و إحساسا وجمالا وسموا في المعنى والأسلوب بصرف النظر عن نوع اللغة ونمط التفكير لصاحبها تجعلنا نتساءل : لماذا يكتب الإنسان ؟ وما الغاية القصوى من هذا العناء الكبير ؟
إن الكتابة جزء من الحياة العامة , وهي بمثابة الهواء الصافي الذي يستنشقه الكاتب في كل مكان من أمكنة الواقع المر , وبدونها تتوقف حياته, كما تتوقف معها حياة الآخرين وتموت العواطف والأحاسيس ليصبح كل ما يدب على هذه الأرض خراب في خراب ... تستطيع الكلمة السلسة الجيدة , أن تأخذ الأجسام النحيلة اليائسة من الواقع المر إلى عالم الخيال والمتعة والنشوة الباطنية , كما تستطيع أيضا أن تجعل العين تذرف عبرات ساخنة ولامعة كاللؤلؤ والمرجان النفيس . تهز النفوس وتنشر الآهات في كل درب وحدب .في أعماق هذه الكلمة , تسمع رنين الحروف المتجانسة كأنها سنابل حقل يافع تتلاعب بها موجات النسيم العليل, أثناء بزوغ فجر منمق بألوان الفل والياسمين و شقائق النعمان . أي إحساس تريده من هذا الوجود , مثل هذا الوصف الجميل الرومانسي الجذاب ؟ أن تسمع كلاما راقيا , وتشعر بعاطفة رقيقة , ويدق فؤادك دقات منتظمة تضخ بها كميات من دم صافي احمر اللون , يرمز إلى الفتوة و القوة الخارقة .
تستطيع الحروف الهجائية المنتظمة أن تعود بك إلى اعز فترات شبابك , وتحملك برفق كيد أم حنون تضعك في مهدك , تود أن يغمر جفونك , ألذ النعاس ودغدغات الكرى , أو كريح ناعمة تهب على محياك وآنت بين أنامل الحر والعرق الصبيب . أي شيء تريده من هذا الكون الجحيم ؟ فلولا الكتابة البسيطة ذات الحروف المتراصة كالجيش الجرار الذاهب إلى ساحة الوغى يسعى إلى الفتك بسوء السلوك : كالظلم والقهر والإحباط , أي شيء أجمل إذن من الكتابة ورسم العواطف وتهذيب النفوس وسمو المعاني ...
تستطيع الكتابة الملتزمة و الحاملة للفكر الراقي , الساعية إلى الحفاظ على إنسانية الإنسان , أن تنشر الأخوة والرحمة الدائمة بين كل أبناء ادم وحواء بدون تمييز في الفكر واللون والدين واللغة والعقيدة... ما أحوجنا إلى أمهات الكتب والمصادر الأصيلة ليسمو بها تفكيرنا المعاصر الغث والملوث بشتى قشور الحضارة الغربية المزيفة . فإلى متى و فكرنا يستسلم لحبال الانتهازية والوصولية الدنيئة وأجسادنا ترضخ لويلات الاستلاب والاستبداد و الإهانة والانحطاط . ؟
إننا في حاجة ماسة اليوم إلى ثورة فكرية , تغسل ما تبقى فوق ثيابنا من تقيؤ الفكر المتحجر الرجعي الذي يسعى جاهدا كل يوم بل كل دقيقة إلى الوقوف كسد مانع يحجبنا عن المضي في سبيل التقدم والرفاهية والسعادة الانسانية .