ان الأمير الصغير ذو التسع سنوات لا يصدق نفسه و هو يسير بخطى وئيدة مرتديا بدلة أنيقة معدة بعناية فائقة، يسير مزهوا فوق البساط الأحمر يترنم بموسيقى عسكرية منتظمة، و يدغدغ مقلتيه بصفوف العساكر و الحشود المتلهفة لرؤيته أو للسلام عليه.. لينتهي البروتوكول بأن يتقدم رئيس فرقة العسكر الاستعراضية للانحناء و تقبيل يده...لا بأس، فالعسكر و من شاكلهم ، الله يكون فالعون، مستعدون لفعل أي شيء تتخيله أو لا تتخيله إذا ما صدر من رؤسائهم حتى لو طلب منهم السجود لصنم أو تقبيل رأس الشيطان نفسه، و هم لا يسألون أنفسهم عما يفعلون، و إذا سئلوا قالوا" اتبعنا سادتنا و كبراءنا فأضلونا السبيلا" آية.
يواصل الأمير الصغير سيره الذي تدرب عليه بدقة، و هو يستعد لتدشين حديقة الحيوانات التي تسلب الألباب، ليستعرض هذه المرة صفوفا أخرى من الكائنات التي ترتدي زيا مدنيا و ربطات عنق فاخرة، و هي تكاد تطير من الفرح و السرور عندما تنحني بقاماتها الخشبية الطويلة المسندة لتقبيل يد الأمير في منظر كاريكاتوري يبعث على الشفقة و الأسى أكثر مما يبعث على الضحك أو الابتسام. و من طرائف الصدف التي صاحبت هذا المشهد الجميل، أن المذيع الذي يعلق على الخبر، بصوته العذب الذي يملؤه الإخلاص و الوفاء، ظل يردد أثناء انحناء الكائنات المدنية و ركوعها أن الحديقة تتوفر على " حيوانات محلية و أخرى مستوردة" و أن من بين هذه الحيوانات" من هو في طور الانقراض"...و كما نعلم أن لفظ الحيوان يطلق عل العجماوات من الكائنات الحية كما يطلق أيضا على الإنسان، و لا يصير التمايز قائما بين الصنفين إلا بعد أن يتحرر النوع الثاني من بهيميته و انتهازيته و وضاعته، و يبدأ بالتحلي بمكارم الأخلاق و القيم التي تستثنيه من زمرة الذين رددهم الله أسفل سافلين بعد أن خلقهم في أحسن تقويم. و لذلك كنت أتساءل مع نفسي و أنا أستمع لتعليق المذيع و إنشائه الأخاذ : هل يوجد تقارب أو تشابه بين حديقة الحيوانات العجماوات التي دشنها الأمير الصغير و بين حديقة الحيوانات الناطقة التي تم الاستغناء فيها عن أقفاص الحديد ما دامت مثل هذه الأقفاص، وأقفاص أخرى أكثر منها صلابة و مقاومة، تعشش في أذهانها منذ زمن بعيد!؟ و هل تعتبر قيم هذا النوع الثاني محلية تماما كما هو شأن بعض أصناف الحيوانات التي انتقلت للعيش في حديقة الرباط؟ أم أن منها ما هو مستورد و مستنبت في بيئتنا كما هو شأن الكثير من مواد الاستهلاك اليومية؟ و هل وضع القيمون و الساهرون على حماية منظومة قيم مجتمعنا نظاما إيكولوجيا مماثلا لنظام الحديقة ليحافظوا به على مثل هذه القيم البالية من الانقراض؟... لا شك أن مثل هذا المشهد الذي يفخر إعلامنا ببثه ليشاهده ملايين المغاربة و من بعدهم عدد لا حصر له من متتبعي طرائف الانترنيت و غرائبها عبر العالم، لهو من الأمور السلبية التي سيؤاخذها الكثير من الناس على بلد ارتأى التحرر من ماضيه المتعثر و الموسوم بقدر هائل من الارتباك و الظلمة و الغموض، لعله يعانق مستقبلا جديدا يستفيد فيه من أخطائه و يقوم(بتشديد الراء و كسرها) اعوجاج بعض تقاليده البالية و يعدل ماشاء الله له أن يعدل من الفلسفة التي تؤطره. و إذا كان الدستور نفسه، ثم الملك من بعده، لا يلزمان أحدا من العالمين بتقويس الظهر و تقبيل يد أحد من مسؤولي هذا البلد السعيد، و في المقابل، يعترف الدستور للملك و يقر له بواجب الاحترام، الذي هو في ذاته واجب ينبغي أن يكون تجاه أي إنسان مع فارق في الدرجة و ليس في النوع، إذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك! فإن التخلف الذي يصر على اللحاق بنا متى و أينما أردنا الارتحال، ينبع بالأساس من تلك العقول البالية التي فقدت مياه وجهها بالمرة و استراحت من إزعاجها، و التي لا يهمها إلا الاقتيات من الموائد حيث الأطعمة الدسمة التي لا تسمن جوعها المتوحش و جشعها، وحيث الامتيازات التي لا تروي عطشها، و لكنها تظل تغريها فتظل تلهث خلفها باستمرار. لربما كانت حيوانات حديقة الرباط تتفرج هي الأخرى على طقوس الكائنات الناطقة من حولها و على أزيائها و ألوانها و تستمع لموسيقاها و صيحاتها و هي مندهشة لهذه الأنواع الغريبة من المخلوقات التي تتستر خلف ملابس جميلة و التي قد لا تختلف كثيرا معها في طباعها و نزوعاتها. و لعل يوم افتتاح الحديقة و تدشينها كان مناسبة لهذه الحيوانات السيئة الحظ لتدرك أن الانقراض هو أضعف من أن يتغلب على مقاومة بعض الأصناف من البشر التي يمكن أن تتشبث بأي شيء ممكن من أجل أن تضمن لنفسها الحظوة و الاستمرار...نقول أي شيء ممكن، و لو كان شعرة بعير..فبالأحرى أن يكون يدا كريمة لأمير! و لله في خلقه شؤون و هو القاهر فوق عباده و إليه الأمر كله و هو على كل شيء قدير.