بمدينة مراكش، تم تفجير مطعم أركانة قبيل الغذاء يوم 28-04-2011 في قلب ساحة جامع الفنا.
ما هي هذه الساحة؟
فضاء مفتوح طيلة السنة 24 ساعة على 24، تحيط به عربات محملة بالتمر واللوز والزبيب والعصائر وفي وسطه مطاعم في الهواء الطلق وحولها حلقات الحكواتية والبهلوانيين ومدربي الأفاعي والحمير والحمام والفئران... تمتلئ الساحة من المساء حتى الفجر، يأتي الناس للفرجة على مهرج يقول للحمار قف فيقف. يقول له مت فيتمدد على الأرض... يأتون لتناول "الطنجية" وهي وجبة دسمة تعد من اللحم الذي يوضع في قلة تدفن لمدة 24 ساعة لتنضج في الرماد وفوقها النار على مهل... يستمعون للعرافات يقرأن المستقبل في الورق والأكف والفناجين، يتفرجون على أشكال الطبخ المغربي ويرقصون مع الفرق الموسيقية الشعبية حيث يلبس الرجال ثياب النساء ويضعون النقاب ليرقصوا دون أن يعرفوا...
هذا الفضاء الفريد الذي صنفته منظمة اليونسكو تراثا عالميا، وكتب عنه الكاتب الأسباني خوان غويتيسولو بعشق... وحاولت عدة دول تقليده دون جدوى... الفضاء الساحر الذي استهدفته قنبلة غادرة، سهرت فيه مرارا أتعشى بلسان الكبش المطهو بالبخار... تطل عليه مطعم ومقهى من طابقين بقاعات مكيفة، أرضية ملساء، مرايا تعكس الأشياء إلى ما لا نهاية... سياح بملابسهم الداخلية يدخلون ويخرجون... خليط من اللغات... هذا هو المقهى الذي تم تفجيره وقتل فيه 17 شخصا من سبع جنسيات منهم ثمان فرنسيين... جرى التفجير عن بعد وليس بواسطة انتحاري، وهذا تطور ميداني قد يعكس تقدما تقنيا و تغيرا عقديا ترتب عنه تراجع جاهزية الأجساد الموقوتة للانتحاريين...
كانت تلك هي الضربة الأولى صباح الخميس. في المساء جرى اعتقال رشيد نيني أكبر صحفي في المغرب، وهو يدير الجريدة الأولى في البلاد، جريدة تغطي تمويلها من مبيعاتها وتزيد...وهي ظاهرة إعلامية صالحت الكثيرين مع الجريدة... وميزة نيني أنه الناطق باسم التيار المركزي المحافظ في المجتمع المغربي، وهو يحظى بتعاطف شعبي كبير... بخلاف الصحافيين المشاغبين الذين تعرضوا للمضايقات وهاجروا مثل علي المرابط وأبوبكر الجامعي ورضى بنشمسي...
لم تبدأ مشاكل نيني مع السلطة اليوم، ففي مقال له في جريدة الصباح في 18-02-2006، كتب:
"كثيرون يعتقدون أننا نحن الصحافيين ننفخ في قربة مقطوعة عندما نكتب كل صباح منتقدين الأوضاع الكارثية التي آلت إليها بعض القطاعات... لو جئت لكي أعدد لكم كل الأشياء السيئة التي كتبنا عنها وتم التدخل لإصلاحها لمكثت شهرا..." وختم "هذا الصوت الجارح الأشبه بالاستغاثة يجب أن يصل إلى مول الشي. فأملنا في الله وفيه كبير".
وهو يقصد الملك محمد السادس.
حين واجه نيني أولى مشاكله مع الجريدة المشغلة تلقى رسالة من مهاجر مغربي مقيم في كندا نصحه فيها "ألا يعرض حياته للخطر من أجل شعب فقد البوصلة" وأكد المهاجر المحظوظ "الكتابة لن تغير شيئا في المغرب... أنصحك أن تأتي لأمريكا الشمالية ومستقبلك مضمون".
نشر نيني نص الرسالة في عموده "شوف تشوف" بجريدة الصباح في 7-12-2006. ورد على صاحبها قائلا:
"لا يمكن أن يهاجر الجميع، ولابد من بقاء من يحرس الأمل في هذا البلد".
ترك نيني تلك الجريدة بسبب مقال له عن عدم استقلال القضاء وأسس جريدته الخاصة... والآن هو في السجن يطلب من القاضي اعتقال كتائب الفساد وليس الأقلام التي تشير إلى المفسدين...
القاضي لا يعلم بوجود الفساد.
غطى حدث الإرهاب على خبر الاعتقال، وبدأ البحث عن المتهمين، ثم تمكنت الشرطة من اعتقال المشتبه به الرئيسي. وقد سبق طرده من ليبيا في طريقه للعراق وطرد من البرتغال وهو في طريقه للشيشان... وحاول الهجرة سرا واعتقل وقضى سنتين سجنا... لو تركته الأجهزة الأمنية يهاجر في سبيل الله لكان انفجر في أفغانستان... لما بقي قرر أن ينفذ في المغرب...
اعتقل سبعة أشخاص، بخلاف الحملة التي جرت بعد تفجير مطعم دار إسبانيا في الدار البيضاء في 2003. حينها اعتقل مآت السلفيين وتعرض الكثير منهم للتعذيب...
هذا ما ركز عليه الصحفي رشيد نيني في مقالاته الأخيرة وتسبب في اعتقاله، وقد طالب بإلغاء قانون الإرهاب...
بالنظر للظروف الحالية ليس من الضروري إلغاء قانون مكافحة الإرهاب. لأن الإرهاب موجود، وتهديدات الانتقام بعد مقتل بن لادن تتزايد. لكن المطلوب هو تطبيق القانون واحترام السلامة البدنية للمعتقلين... وغير مسموح خرقه من قبل الأجهزة الأمنية بدعوى أنها تحمي سلامة المواطنين.
ينبني هذا الادعاء من مبدأ المعاملة بالمثل، أي أنه مادام المتهم بالإرهاب يستبيح السلامة البدينة لأفراد المجتمع فإنه بالمقابل ستستبيحه الشرطة. العين بالعين.
تنبع هذه المعادلة من منطق شخصي انتقامي ولا تتناسب مع دولة الحق والقانون التي تطالب بها القوى الحية في المجتمع. فالإرهابي المحتمل مواطن أيضا.
هذه القوى هي التي أربكها تفجير مطعم أركانة. لذا على شيوخ السلفية أن يساعدوها بأن يعلنوا أن السلامة البدنية لمخالفيهم خط أحمر. وأن يتوقفوا عن اعتبار الإسلام مهددا وهم حماته (آخر تمرين لهذه العملية المضللة الهجوم الشديد على فيلم قلب مكسور رغم أن الحوار في الفيلم يتأسس على تفسير الآيات الجهادية لدى المفسرين: القرطبي، ابن كثير والجلالين. كيف لمن لا يعرف هذا أن يصدر أحكاما؟؟)
دون هذا فإن حجج المطالبين بتليين التحقيقات لن تسمع، وكل جريمة ترتكب ستدعم منطق أجهزة الأمن وستعتبرها دليلا على صحة موقفها... وكلما زاد الخوف شعر الناس أن الأجهزة الأمنية على حق.
لقد ترتب عن الانفجار والاعتقال ضربات كثيرة.
الغريب أنه جرى التفجير والاعتقال في وقت جد متقارب. ومن باب السلامة سنحمل مسؤولية تزامن الحدثين للصدفة وحدها... لأن الصدفة مثل السر تقبع في قاع البحر وتحتاج تسونامسي لتتجلى على الشاطئ...
لكن هذا لا يمنع من حساب الربح والخسارة، فالصدفة أيضا تخلف رابحين وخاسرين... من ربح وماذا ربح؟ من خسر وماذا خسر؟
لقد كانت الضربة الاولى لحركة 20 فبراير الشبابية التي صرفت عنها الأنظار.
ضربة للفكر الحر، فبسبب مهاجمة الشباب العلماني في 20 فبراير، تراجعوا، فظهرت الشبيبة البودشيشية وبقيت الحركة في يد العدليين، وقد أدركوا حرجهم فخرج الشيخ ياسين وأرسلان في حملة إعلامية. (وهنا أريد ان يدقق محمد الناجي من البرج الذي يجلس فيه في قوله في أخبار اليوم "ياسين وحمزة من أشباح الماضي"، فإذا كانوا أشباحا فهم يخيمون على المستقبل).
Yacine et Hamza, fantômes du passé Par Mohamed Ennaji
الضربة الثانية للأقلام الحرة التي ستزيد من الرقابة الذاتية. فإذا كانت السلطة قد اعتقلت صحفيا، يصنفه خصومه بأنه موالي لجناح في السلطة، فإن الصحافيين المستقلين، الذين لا يملكون تغطية سياسية، سيكونون عرضة سهلة للمتابعة...
لماذا نعد الخسائر؟
من يسكر لا يعد الأقداح.
ضربة للسياح الشباب الذين قتلوا في المطعم، وجلهم متزوجون حديثا... وهذا ما خلف حالة عاطفية شديدة من التضامن مع الضحايا.
ضربة للسياحة، ألغى 15 ألف سائح خططهم للسفر إلى المغرب بعد تفجير بمراكش.
ضربة لعيد العمال الذي مر باردا، وقد كان للتفجير والاعتقال والأمطار مجتمعة دور في ذلك. تحالفت الطبيعة مع الإرهاب ضد التغيير.
ضربة للمزاج التعبوي الذي كان سائدا بين الشباب. تبدد الحماس وسيطر مزاج عكر. وقد تلقى السياسيون رسالة قوية، مفادها أنه من الخطر شغل الشرطة بالاحتجاجات بينما مهمتها حفظ الأمن ومحاربة الإرهاب.
بعد الانفجار في مراكش غيرت قوات الأمن من شكل تعاملها مع الاحتجاجات... صارت تضرب.
من ربح؟
في مقال سابق تساءلت "ماذا عن مستقبل لصوصنا؟" واضح أن مستقبلهم مربح فاللهم بارك في رزقهم وضاعف أرباحهم وخسائرنا سنويا...
تغير السؤال: ماذا عن مستقبل صحافيينا المستقلين؟
بعضهم سيقلل من كتاباته، وكثيرون سيتزايد منسوب الرقابة الذاتية في جماجمهم. ومن علامات ذلك تحميل مسؤولية ما يجري للصدفة وحدها. وأيضا التضامن بفم مملوء بالماء مع المعتقل الذي قضى شهين ونصف وراء القضبان، تضامن حذر يخمن تصفية حسابات لاحقة، سواء بالتعرض للعصا أو بالحرمان من الجزرة.
النتيجة، إما مرتشون او كافرون بالوطن.
وفي الحالتين، هذا مضر بمستقبل المغرب.