«إزنزارن».. الأنغام الأمازيغية القادمة من الجنوب المهمش التي رقصت على إيقاعها باريس
مسار قطعته على امتداد أربعة عقود مجموعة ظهرت في قلب سوس وفي أحد الأحياء الهامشية في حي الجرف في إنزكان على الضفة اليمنى من وادي سوس عند مصبه في المحيط الأطلسي.
من أجواء الألم والفقر والحزن والخوف، طلعت أشعة مجموعة غنائية استقرت تسميتها، أخيرا، على «إزنزارن»، التي تعني مجموع الأشعة.
في هذه الحلقات، التي تنفرد «المساء» بنشرها، سنحكي حكاية هذه المجموعة الفنية التي تفردت بنمطها الغنائي واستطاعت أن تجمع حولها محبين بالملايين.
في الـ16 من يونيو 1978، كتبت جريدة «لبراسيون»، الفرنسية، مقالة قصيرة تصف فيها مشاركة مجموعة «إزنزارن» في مهرجان الموسيقى المغاربية في دورته الأولى، مشيرة إلى أن هذه المجموعة قادمة من الجنوب المغربي وتغني بالأمازيغية، المغربية. وكتب صاحب المقال أن «إزنزارن» تغني على نمط «ناس الغيوان»، وقد شاركت المجموعة جنبا إلى جنب مع الأخيرة وإيدر من الجزائر. وعلّق كاتب المقال على أنه لأول مرة ستجتمع الأغنية الأمازيغية والعربية على منصة واحدة في قلب فرنسا، في خطوة وصفتها مجلة «جون أفريك»، في عددها الصادر بالتزامن مع هذا الحدث، بأن هذه الخطوة لا تخلو من العديد من الرسائل التي تريد باريس إرسالها إلى مستعمراتها القديمة في المغرب العربي.
كان منطلق هذا الإشعاع الذي تحقق للمجموعة على المستوى العالمي تلك الأحياء الهامشية التي تبلورت فيها هذه المواهب التي تطورت بهذا الشكل المثير للجدل.
لم تكن كل من مدينة الدشيرة الجهادية وإنزكان تتوفران على معاهد للموسيقى، بل حتى مدينة أكادير في السنوات الأولى من سبعينيات القرن الماضي، ولم تكن هناك أي بنية تحتية تسعف الشباب الموهوبين في كل مجالات الفن أن يفجروا طاقتهم. ورغم ذلك، كانت هناك بيئة متعطشة للفن، بسبب غياب وسائل الترفيه، من تلفزيون وغيره، فكانت الفضاءات المتاحة للفنانين الشباب من أجل إظهار مواهبهم هي الحفلات الخاصة والرسمية وبعض فنادق أكادير. بعد فترات التدريب التي يقضونها في الأحياء الهامشية في كل من إنزكان والدشيرة، كان العديد منهم مهووسين بالموسيقى، كما يحكي ذلك أحمد الباهي، الملقب بأحمد «الصرفاقة»، والذي كان ينشط في إطار فرقة للفنون الشعبية كانت معروفة في مدينة إنزكان. وفي هذه البيئة، التي تفتقر إلى معاهد وفضاءات مناسبة لصقل المواهب الفنية، فضلا على التهميش الذي تعرفه الأقاليم الجنوبية وقتها، حيث غابت أستوديوهات التسجيل، وكانت المحطة الجهوية للإذاعة الوطنية المجال الوحيد للتعريف بالفن، لكن سيطرة مجموعة من المحافظين عليها أغلق كل الأبواب في صفوف الشباب، رغم أن أغلب السهرات التي كانت تنظم، حينها، لم يكن يتجاوز، في أحسن الظروف، 500 درهم.
جعلت كل هذه العوامل الشباب المولعين بالموسيقى يتعرفون بعضهم على بعض، حيث إن الباحث في البدايات الأولى لكل أفراد المجموعة يجد أن هناك قواسم مشتركة في الطريقة التي التحق بها كل فرد على حدة من مجموعة «إزنزارن» بعالم الفن.
يحكي أحمد الباهي أن أول شخص تعرّف عليه كان هو الراحل لحسن بوفرتل، الذي أصبح، في ما بعدُ، صاحب الإيقاع داخل المجموعة. وقد كان لحسن بوفرتل عضوا في فرقة شعبية يرأسها أحمد الباهي، كانت تقوم بالعديد من الجولات في كل أنحاء المغرب، خاصة في المناطق الجنوبية، وفي تلك البيئة، دخل لحسن بوفرتل عالم الفن، حيث سبق له أن شارك في المهرجان السنوي الذي كان يُنظَّم في تندوف في سنوات الستينيات.
وبعد عودته في سنة 1968، تعرّف مولاي إبراهيم على لحسن بوفرتل عن طريق أحمد الباهي، الذي كان يشتغل معه في مجزرة إنزكان، وهناك بدأت الجلسات الأولى التي صقل كل منهما من خلالها موهبته الفنية وتشكلت النواة الأولى للمجموعة.
في تلك الأجواء الفنية، التي كانت مكونة من «الروايس»، المعروفين، من أمثال الرايس محمد الدمسيري في مدينة الدشيرة والرايس الحاج حماد أمتناغ الذي كان يقطن بحي «الملاح» في إنزكان، والرايس الحسين، الملقب بـ»جنتي»، وهو الذي تعرض للتعذيب على يد الاستعمار الفرنسي، بعدما رفض أن يسجلوا له أغانيه بسبب مواقفه المساندة للمقاومة... إضافة إلى فرق موسيقية شبابية وشعبية كانت تجمع بين الغناء بالعربية والأمازيغية، وقد تجسد هذا المزج في أغنية «تابغاينوست»، التي كانت تجمع بين كلمات من الدارجة وأخرى من الأمازيغية.. وقد كان الهدف من مثل هذه الأغاني هو «التنشيط» لِما كانت يثيره ذلك المزج من إعجاب لدى المتتبعين.
يحكي أحمد «الصرفاقة»، أحد الشهود على تلك الفترة من تاريخ الفن في المنطقة، أن الفنانين رغم ذلك كانوا معدودين على رؤوس الأصابع وكانوا محترَمين من الجميع. كما أن العديد منهم كانوا يأنفون من اللجوء إلى «الحْلاقي»، التي كانت مشتهرة حينها. ورغم التعبيرات الفنية التي تعبّر عنها «الحْلاقي» فإن الأسماء الفنية المعروفة كانت لا تنخرط في هذه الأشكال، بل اكتفت بالحفلات كفضاء لتصريف فنها.
كانت الأجواء الفنية التي تطبع تلك السنوات الأولى من السبعينيات، إلى حد ما، مناسبة لظهور مجموعة اسمها «إزنزارن». ومن خلال الاحتكاك المباشر بفناني تلك الحقبة ، تشكلت البوادر الأولى لتبلور نمط غنائي لظاهرة «تازنزارت»، التي ستنفرد بخصائصها في ما بعد، كما يقر بذلك إبراهيم، أحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة «أرشاش»، الذي أكد في شهادته حول تلك الحقبة أن «إزنزارن» استطاعت أن تؤثر فنيا، سواء في الناطقين بالأمازيغية أو في غيرهم، وذكر في ذلك نكتة تقول إنه حدث أن مر شخص بامرأة في الحافلة ولم ينتبه إلى أنه دهس رجلها تلك فتأملت وصاحت: «آيمي حْنا».. فأجابها الرجل الذي دهس رجلها، وكان من غير الناطقين بالأمازيغية «أوهوي أوهوي أتاسانو».. وهما مطلعان لأغنيتين لـ«إزنزارن»، فقد كانت أغاني المجموعة حافزا للعديد من المهتمين بالفن إلى تعلم اللغة الأمازيغية. وأقر أن فرقة «إزنزارن» تبقى، على كل، حالة مدرسة فنية قائمة بذاتها، يقول عضو مجموعة «أرشاش».