أخبرني صديق مقرب مني يشتغل في مندوبية تابعة لإحدى الوزارات، أنه أشفق ذات يوم على رجل ترك مهنة صباغة الجدران التي كان يزاولها و فضل أن يشتغل بوابا و خادما يحترف الجلوس و الانتظار في فضاء هذه المندوبية، يأتمر بأوامر الموظفين و يراقب الداخلين و الخارجين، إلى أن تحين بداية الشهر أو نهايته فتبدأ معها رحلة بحثه عن تلك الأجرة الزهيدة التي تسددها له "شركة خاصة" لا يربطه معها تعاقد و لا هم يحزنون...فاقترح صديقنا على هذا البواب أن ينسلخ من سلبيته التي تجعله يقتنع و يكتفي بالفتات، و أن يكون في المقابل طموحا فيبحث لنفسه عن موارد مالية إضافية تعينه في الحياة و تغنيه عن سؤال الناس، و أن يستثمر، مثلا، مهارته في الصباغة و يوظفها و لو في بعض أوقات فراغه. " و كبادرة طيبة مني" يقول هذا الصديق"حاولت مساعدته فوجدت له عملا صغيرا(بريكول) يمكن أن يقوم به في يوم من أيام عطلته الأسبوعية و يجني من ورائه مالا يعين به نفسه..فأبدى البواب موافقته و استعداده، فضربت له موعدا...و لكن، للأسف الشديد، أخلف موعده دون أن يعتذر أو يبدي أسفا...لأكتشف في الأخير أنه غير مكترث بتاتا لمثل هذه الأفكار، و أنه لا يريد صداع الرأس...و اللي بغا يربح راه العام طويل..!" استطرد صديقي يقول:" فلم أجد ما أقول له من الكلام غير.."نتا راه مايصلح ليك تكون غير عساس!".
استحضرت هذه القصة الطريفة لأن الانتخابات التشريعية الأخيرة بمدينة كلميم و ما جاورها، كشفت أن هذا "العساس"- مع احترامي الشديد و تقديري لجهد و صبر هذه الفئة- كان مجرد عينة صغيرة.."شانطيو"..لكنها معبرة بامتياز عن نمط من الوعي و التفكير السائدين لدى شريحة واسعة من الناس الذين يعيشون على إيقاع وثيرة خاصة بهم في الحياة، و الذين قد لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير أو حتى الحلم بتغيير واقعهم الذي يعتبرونه قدرا محتوما ينبغي الرضا به و الرضوخ له...هؤلاء الناس يكتفون لتحقيق سعادتهم – اللحظية طبعا – بتحصيل ما يكفيهم من احتياجات مادية ليوم واحد أو أكثر ، كأن تكون شايا و سكرا أو زيتا أو مبلغا من المال..مائة درهم مثلا أو يزيد..لهذا فهم يرون ، كما رأى العساس من قبل، أنهم " مايصلح ليهم غير إيكونو على هاد الحال.. و راهم بيخير!" و أن دورهم الحياتي يقتصر على إعادة إنتاج نمط عيشهم حتى لا يحيدوا عن الصراط الذي رسموه لأنفسهم أو رسمه لهم غيرهم.
قد تكون هذه القراءة سطحية أو هي مجرد انطباع، و مع ذلك فلا يجب أن تحجب عنا حقيقة البؤس الواضح الذي مازالت تعيشه فئات عريضة في إقليم صغير كإقليم كلميم الذي ربما قد يكون أحسن حالا و أقل سوءا مما قد تعيشه فئات مماثلة في مناطق أخرى من المغرب..هذا البؤس الثقافي و الاقتصادي يعمل باستمرار على توليد كائنات طيعة يسهل التلاعب بعقولها و عواطفها، و من ثمة تحويلها إلى أرقام و أصوات فاقدة لأي حس إنساني، يوظفها السماسرة الذين، و إن كانوا بالفعل أميين و جهلاء من منظور الثقافة العالمة، و لكنهم في حقيقتهم يستحقون عن جدارة دبلومات و شواهد عليا على معرفتهم الدقيقة و درايتهم بخبايا واقعهم الاجتماعي، الظاهر منه و الخفي، و على فاعلية مكرهم و دهائهم...إنهم بالفعل مهندسون اجتماعيون لا يحتاجون إلى شواهد ورقية تعترف لهم بمهارتهم!
عندما تتبعنا الانتخابات التشريعية الأخيرة في كلميم، لمسنا نوعا من التغيير في الطريقة التي يفكر بها الناس و يطمحون، و التغيير على كل حال موجود في جميع البنى حتى ولو كانت سرعته بطيئة و غير ملموسة. و مع ذلك تظل سرعتنا، في هذه المدينة، في مواكبة ما يشهده العالم من أحداث و تطورات ضعيفة جدا، مما يجعل الرهان يعقد أكثر على مؤسسات المجتمع المدني لعلها تصلح ما أفسدته الأحزاب التي لا تسمع و لا ترى إلا في يوم الأحزاب، و لعلها تستطيع ترقيع ما مزقته مؤسسات الدولة من ثوب كان من المفترض أن تستر به عورتها...
في الأخير، أجد نفسي مرغما على أن أتمتع بروح رياضية، و أهنئ الفائزين في انتخابات مدينة كلميم، و أقول لهما إن واقعنا في هذه اللحظة بالذات لا يحتاج إلا لمثليكما، فأنتما الأقدر على تمثيل بؤسه و خنوعه و أيضا إعادة إنتاجه...لقد صدق أفلاطون عندما شن حملته على " الديمقراطية" لأنها، في نظره، تصبح مفسدة عندما يساس بها من هم غير أهل لها، و عندما تتيح لمن يفتقد سلاح المعرفة و الوعي أن يشارك في اتخاذ القرارات المصيرية..فيحكم المجتمع حديث الفوضى، بدل أن يحكمه حديث النظام...نسأل الله ألا يحاسبنا بذنوبنا و لا بذنوب غيرنا و أن يعفو عنا إنه سميع مجيب.