تلقينا دعوة رفقة بعض الحقوقيين من مجموعة من النساء بجماعة أبطيح لحضور الجمع العام التأسيسي لجمعيتهن؛ نظرا للعراقيل التي ما فتئ قائد الجماعة يضعها في طريقهن منذ وضعهن لإخبار التأسيس لدى مصالح القيادة. ولنلبي الدعوة، احتجنا لأسبوع كي نؤمن وسيلة النقل التي ستقلنا صوب أبطيح، التي تبعد عن طانطان بحوالي 84 كلم جنوبا على الطريق الرابطة بين طانطان والسمارة. وقد تطوع أحد الأصدقاء لكي يقوم بهذه المهمة، نظرا لعدم وجود وسائل نقل منتظمة تربط بين المدينة وجماعة أبطيح. وعندما انطلقنا صوب هذه الجماعة التي كنا لا نعرف منها سوى الاسم، وجدنا أنفسنا في طريق طويلة لا تريد أن تنتهي، ولا يوجد فيها أي منظر يجعلك تحس أنك ذاهب لزيارة قرية أو جماعة قائمة بذاتها؛ لأن الطريق خال من وسائل النقل إلا من بعض سيارات الدفع الرباعي الخاصة بتهريب المحروقات والدقيق المدعم من السمارة، والتي لا ترى منها سوى الغبار الذي تخلفه وراءها. وبعد مرور ساعة تقريبا، لأن صديقنا كان يسير بسرعة كبيرة نظرا لخلو الطريق، ثم للوحشة التي شعرنا بها والسيارة تمخر عباب السراب الناتج عن حرارة الجو ذلك اليوم، وجدنا أنفسنا أمام حاجز للدرك الملكي في مدخل الجماعة؛ حيث استوقفنا الدركي وألقى علينا التحية لأنه يعرف صاحب السيارة، ثم أخلى سبيلنا. وما هي إلا دقائق حتى وجدنا أنفسنا وسط منزل متواضع به عدد من النسوة لا يتعدى عددهن العشرة، جلهن من المسنات اللائي جار عليهن الزمن وأنهكتهن سنوات العمل الشاق وضنك العيش، أما الشابات منهن فما زلن يبحثن عن فرصتهن في الحياة، ويحلمن باليوم الذي يغادرن فيه هذا السجن الذي وضعتهن فيه الظروف القاسية. وكعادة الصحراويين، استقبلنا بحفاوة، وقدم لنا التمر والحليب تقديرا لتجشمنا عناء الحضور لهذا المكان الذي نسيه التاريخ وهجره أهله ولم يصمد فيه إلا من لم يجد خيارا آخر أمامه. ونظرا لفضولي الصحفي وحب الاستطلاع، ولأن مجيئي كان وراءه هدف ثان هو كشف ما يمكن كشفه من واقع هذه الجماعة التي يوجد بها تعداد سكاني مهم على الأوراق، وترصد لها ميزانيات سنوية وفق ما يفترض أن يكون بها من ساكنة، تركت أصدقائي يشرفون على تأسيس الجمعية وخرجت لأتجول في الجماعة التي لا يتعدى قطرها 500 إلى 600متر، ولا تتعدى المساكن الموجودة بها العشرات، جلها مهدم أو في طريقه ليهدم بفعل عوامل الطقس، ولكون أغلب الدور مبنية بالطين فقط، وحتى المأهولة منها فهي لا ترقى لمستوى السكن الذي يحفظ كرامة وإنسانية ساكنيها. والحقيقة أن الواقع صدمنا وجعلنا نأسف لحال المواطنين القاطنين بجماعة يكاد الداخل إليها يظن نفسه في مقبرة أو مكان تسكنه الأشباح فقط، لأنه طيلة فترة تجوالي وسط المنازل المهدمة لم أصادف أي إنسان سوى صاحب المقهى اليتيم الذي يوجد في الجماعة، وقد استغرب لرؤيتي في ذلك الوقت من اليوم الذي يخلد فيه الجميع للنوم في انتظار أدان العصر؛ حيث يجتمع عدد من الشيوخ في المسجد الذي يعتبر نقطة الضوء الوحيدة في الجماعة، لأنه يحتوي على تلفاز لمتابعة الدروس على قناة السادسة، ويتوفر كذلك على مرافق صحية مجهزة بسخان للماء، لكنه يفتقد للرواد؛ لأني عندما أديت فيه صلاة العصر لم أجد سوى الإمام وأربعة رجال مسنين. ونظرا لتأخري عن أصدقائي، فقد أخذوا يتصلون بي هاتفيا حتى أعود للمنزل مقر الجمع العام خوفا علي من مضايقات رجال الدرك الذين للأمانة لم يهتموا لأمري، ربما لرغبتهم في كشف واقع الجماعة التي يعانون فيها هم كذلك. وعندما عدت، وجدت الجمع العام قد انتهى، لكن بالمقابل عاينت حالات إنسانية لا يمكن إغفالها؛ فالمنزل الذي كانت النسوة تجتمعن به يخص أسرة مكونة من امرأة مسنة طريحة الفراش لا تنهض من مكانها، ورجل يبلغ من العمر 123 سنة طريح الفراش كذلك، وابنة معاقة لا تقوى على الحركة. وعندما عرفت النسوة أني مراسل، بدأن بسرد معاناتهن ومشاكلهن اليومية مع الفقر والحرمان والمرض وكل أنواع الفاقة التي جعلتهن وعائلاتهن يستقرن بهذه الجماعة الفقيرة المهجورة التي غادرها كل من له القدرة على مواكبة متطلبات المدينة المادية، ولم يبق بها سوى الشيوخ والعجائز والمعاقون يصارعون الحياة ويأملون في أن يحظوا بالتفاتة من المسؤولين والمنتخبين الذين صوتوا عليهم دون أن يروا وجوه بعضهم. ولتقريب القراء والمتتبعين من معاناة هؤلاء البسطاء الطيبين الذين تحدثوا معنا بكل عفوية وتلقائية، أعددنا هذا الروبورطاج حول حالة هذه الجماعة التي ظلت حتى وقت قريب مسرحا لمعارك طاحنة بين قواتنا المسلحة وميليشيات البوليساريو، وكان دويها يصل لمسامع السكان في مدينة طانطان رغم المسافة التي تفصلهما.
إدارات مغلقة ومصالح السكان معطلة
قد يستغرب المرء عندما يسأل شخص مستقر بالجماعة شخصا آخر زائرا عن مصير شهادة السكنى التي طلبها من قائد الجماعة؛ لأنه من المفروض أن يكون المستقر أعلم بمصير طلبه من الزائر. والأغرب هو عندما يحدث هذا من أحد عناصر الدرك الملكي الذي سأل الصديق الذي تطوع ليقلنا للجماعة هذا السؤال؛ لأن الحال في جماعة أبطيح مقلوب، والسبب هو أن القائد مستقر في طانطان ولا يزور الجماعة إلا نادرا، وقد تمر شهور دون أن يكلف نفسه عناء تفقد أحوال السكان بالجماعة التي يمثل بها السلطة التي من المفروض أن تحميهم وتقضي كل أغراضهم الإدارية. والمشكل أن هذا ليس حال القائد فقط، بل حال الموظفين الذين يعدون أشباحا؛ نظرا لكون السكان الذين يعيشون بالجماعة لا يعرفون منهم أحدا سوى الشيخ الهرم الذي يعيش بينهم منذ سنوات طويلة. والحقيقة أن السكان فرحون لغياب القائد الذي كلما حظر يحدث المشاكل ويتعسف على المواطنين. وقد سبق لجريدتنا أن نشرت مقالات بهذا الخصوص، لدرجة أنهم يفضلون أن يؤجلوا قضاء بعض الأمور الإدارية ماداموا سيرتاحون من بيروقراطية هذا القائد. ونفس الأمر ينطبق على الجماعة التي تشترك في نفس المقر مع القيادة؛ فهي مغلقة باستمرار ولا يوجد بها حتى حارس يمنع عنها اللصوص إن فكروا يوما في سرقتها، ولو أنهم سيندمون على ذلك لكون الجماعة مجرد بناية لا تجهيزات فيها ولا معدات قابلة للسرقة بحسب إفادة بعض المواطنين؛ لأننا لم ندخل إليها، والرئيس وموظفوه غائبون عنها باستمرار ولا يزورونها إلا نادرا أو خلال الحملات الانتخابية أو عندما تحل فترة توزيع المعونات على السكان، حتى يستفيدوا هم كذلك. وقد لا نبالغ إن قلنا بأن مقر الجماعة لم يفتح منذ نهاية الانتخابات الجماعية لسنة 2009، وبأن هناك بعض الموظفين لم تطأ أقدامهم تراب الجماعة، وربما لا يعرفون حتى أين تقع. أما المستوصف الوحيد الموجود بالجماعة فلا يفتح أبوابه إلا عندما تكون هناك حملات للتلقيح أو مناسبات رسمية، أو عندما تكون وقفات احتجاجية بطانطان ضد رداءة الخدمات الصحية، ثم يعود ليغلق أبوابه من جديد، ويبقى السكان يجترون معاناتهم مع المرض وتكاليف التنقل لطانطان للحصول على العلاج وشراء الأدوية التي من المفروض أن توفر لهم بالمجان، في الوقت الذي لا يعرف فيه أحد مصيرها ومصير الأطر الطبية التي يجب أن تكون مرابطة بعين المكان لتقديم العلاجات الأولية للمرضى من سكان الجماعة. وللأمانة، فالمؤسسة الوحيدة التي تؤدي دورها ــ بحسب شهادة السكان ــ رغم صعوبة الظروف وقلة الوسائل هي المدرسة الابتدائية التي يدرس بها ثلاثة معلمين مستقرين بالجماعة، ويؤدون عملهم بحسب الإمكانيات المتوفرة لديهم. وقد زرنا المؤسسة ووقفنا على ما يقوم به هؤلاء المدرسون وسألناهم عن ظروف العمل، فأكدوا لنا أنهم قضوا أزيد من ست سنوات بهذه المؤسسة في ظروف قاسية مع التنقل وتأمين المؤن الضرورية للعيش، نظرا لغياب كل مستلزمات الحياة بالجماعة؛ وهو ما يجعلهم يشعرون بالملل وينتظرون اللحظة التي تشملهم فيها الحركة الانتقالية ليحسوا بطعم الحياة كباقي نساء ورجال التعليم الذين يعملون بالمدن. ولولا حسهم المهني ومسؤوليتهم الأخلاقية اتجاه التلاميذ، لفعلوا كما فعل موظفو الجماعة والقيادة والمستوصف، وأصبحوا هم كذلك أشباح. وأمام هذا الوضع المهين للمواطنين، لابد أن يتدخل المسؤولون للضرب على أيدي المقصرين في حق السكان، خاصة وأننا نروم إدارة مواطنة تجعل همها الوحيد هو مصلحة المواطنين وليس المصلحة الشخصية، وتُفعّل الإدارات التي بنتها الدولة بأموال هؤلاء البسطاء الذين باتوا يستجدون خدمات هي في الأصل من حقهم.
جماعة جار عليها الزمن
منذ انطلاق حرب الصحراء سنة1976 وجماعة أبطيح تعيش على إيقاع المواجهات بين القوات المسلحة الملكية وميليشيات البوليساريو، لتكون بذلك خطا حربيا يحمي ما خلفه من المدن، خاصة طانطان، من قصف العدو. وقد قضى بها المئات من الجنود دفاعا عن الوطن، ومازالت المقابر الجماعية على تراب الجماعة شاهدة على ذلك. وهي لم تعرف الهدوء إلا بعد إنشاء الحزام الأمني، ومع ذلك فقد ظلت مكانا لتدريب فيالق الجنود المرابطين بالحدود؛ فكانت بذلك مركزا لرواج تجاري مهم، مما ساعد على استقرار العديد من العائلات بالجماعة؛ سواء من أبناء المنطقة أو من التجار القادمين من المدن الداخلية الذين وجدوا في تواجد القوات المسلحة فرصة لتنمية نشاطهم التجاري. لكن الجماعة لم تستفد من هذا النشاط ومن هذه الحركية؛ لأنه سرعان ما اختفى كل شيء بعد رحيل الجنود وعودتهم لثكناتهم، لتعود أرضا قاحلة وكأنها لم تعمر من قبل. والزائر الذي يمر من الجماعة سيخالها قد تعرضت للتو لقصف مدفعي أو لغارة جوية، أسفرت عن تهديم جل المنازل غير المأهولة؛ لأن السكان قد هجروها وتركوا وراءهم ما قد تعبوا في بنائه أملا في مستقبل زاهر للمنطقة، وفي ضمان مكان يأويهم ويضمن لهم الاستقرار العائلي والنفسي. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقال؛ حيث بقيت المنازل والدكاكين عرضة لكل أنواع التعرية البشرية والطبيعية، حتى تحولت إلى أطلال يقف عليها الزوار ممن سكنوها سابقا بألم وحسرة؛ لأنها كانت حتى وقت قريب مساكنهم ومصدر رزقهم. أما البقية الباقي من السكان، فمازالوا يتشبثون بأمل واحد؛ وهو أن يستفيق المسؤولون الحاليون من سباتهم العميق، ويقوموا بترميم هذه المساكن وإعادة الحياة لهذه الجماعة، عبر خلق أنشط تشجع المواطنين على الاستقرار، خاصة وأن الجماع ــ وبحسب بعض المختصين ــ بها تربة خصبة، وفرشة مائية مهمة تساعد على خلق نشاط فلاحي مهم، لكن لحد الساعة لم تصل أصوات الشيوخ والأرامل والمعوزين الذين يشكلون ساكنة الجماعة للمعنيين، الذين يعتبرون هؤلاء أرقاما انتخابية فقط، يلجؤون إليهم عند الحاجة، دون السؤال عن أحوالهم وسبل عيشهم في مكان قاحل مقفر يعج بالحشرات السامة، وبمخلفات سنوات الحرب من متفجرات وألغام ذهب ضحيتها العديد من الشباب، وبترت أطراف آخرين دون أن يتم تعويضهم، رغم قيام القوات المسلحة الملكية في السنوات الأخيرة بعدة حملات لتنقية المنطقة من الألغام، إلا أنها لا تزال تقلق راحة السكان وتقيد تحركاتهم داخل مجال ترابي محدود.
خيرات تمر أمام السكان ولا يستفيدون منها
لا تبعد الجماعة القروية أبطيح عن النفوذ الترابي للسمارة سوى بأمتار قليلة، لكنها لا تستفيد من الامتيازات التي يستفيد منها جيرانها، خاصة المواد المدعمة؛ حيث تمر من وسط القرية مئات السيارات رباعية الدفع محملة بآلاف الأطنان من الدقيق والبنزين المدعمين، متوجهة صوب المدن الداخلية. وسكان الجماعة إن أرادوا التزود بالوقود يشترونه من السوق السوداء، لأنهم لا يتوفرون على محطة بنزين. وإن أرادوا كيس دقيق يشترونه بضعف ثمنه من المهربين مباشرة، أو يسافرون لجلبه من طانطان أو السمارة. ونفس الشيء بالنسب لقنينة الغاز وباقي المواد الغذائية؛ فالجماعة تتوفر على دكان واحد لا يسد حتى حاجيات صاحبته؛ فكيف بسكان الجماعة على قلتهم، علما أن كل من يقطن الجماعة لا مورد قار له؛ فهم يعتمدون على تربية بعض رؤوس الماعز التي يستفيدون من حليبها ومشتقاته ويبيعونها كلما اضطروا لذلك لسد حاجياتهم الضرورية، في الوقت الذي يتم فيه بيع مياه الجماعة ــ التي تعدى صيتها حدود الإقليم ــ التي وصلت حتى تخوم موريتانيا لتباع بأثمان باهظة، في حين يحرم منها السكان المستقرون بالجماعة؛ حيث زودت منازل بعضهم بالماء الذي جلبه المكتب الوطني للماء من منطقة قريبة من الجماع، لكنه رديء ولا يصلح حتى للتصبين. والمواطنون يتحسرون كلما رأوا أسراب الشاحنات الصهريجية تقف أمام البئر التي حفرها أجدادهم ليملئوا من مائها الزلال ويتركون ورائهم كومة من العطشى الذين يضطرون لحفر بعض الحفر داخل مجرى الوادي للوصول للماء الذي قد يكون صالحا للشرب أو أجاجا، كل بحسب قدره من التوفيق. وقد وقفنا على منظر مؤثر خلال زيارتنا للجماعة، عندما وجدنا شخصا معاقا يتعاون مع أفراد أسرته في الحفر وسط الرمال لعل وعسى يحالفه الحظ ويعثر على ما يروي به ظمأ صغاره؛ وهذا يقع بينما المسؤولون غائبون ولا يعرفون ما يقع بالجماعة، أو لا يريدون أن يعرفوا حتى لا يشعروا بتأنيب الضمير وهم يتمرغون في العز والنعيم، والسكان يعيشون الفقر المدقع والتهميش؛ لأن الأشخاص الذين انتخبوهم لكي يكونوا صوتهم لدى المسؤولين منشغلون عنهم بقضاء مصالحهم الشخصية وبتنمية ثرواتهم على أنقاض معاناة من انتخبوهم.
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مشروع للنخبة ولذوي القربى
عندما أطلق جلالة الملك محمد السادس نصره الله برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قبل خمس سنوات، كان يهدف لإنصاف الطبقات الفقيرة من جور الزمان ومن تعسف المحظوظين الذين راكموا الثروات دون أن يتعبوا فيها. وبالفعل، فقد استطاع بعض المسؤولين في مناطق المغرب المختلفة أن يفهموا هدف جلالة الملك وأن يطبقوا تعليمات جلالته كما هي، ليكون المستفيد الأول من هذا البرنامج هو الفقير فعلا وليس الأغنياء. وللأسف، فهذا لم يحدث في أبطيح، التي يعد سكانها بدون استثناء فقراء ومحتاجين ولا دخل لغالبيتهم؛ فبدل أن تقام مشاريع مذرة للدخل، وتمنح للجمعيات والتعاونيات حتى تحسن ظروف عيش السكان، قام المسؤولون ببرمجة عدد من المشاريع الفاشلة وغير المجدية في الجماعة؛ من قبيل إنشاء مقهى بمبلغ فاق 30مليون سنتيم مازالت مغلقة منذ إتمام أشغال البناء بها؛ لأنه لا يعقل أن يجلس شخص مسن أو امرأة مسنة لا يملكان قوت يومهما في المقهى ليجترا الكلام الفارغ ويتفرجا على الطريق الفارغة. كما بني مركز للتعاون الوطني متعدد الاختصاصات، مجهز عن آخره ولم يفتح إلا ليكون مكتبا للانتخابات الجماعية الأخيرة. أما الرائدات اللواتي أنشئ من أجلهن فهن غير موجودات سوى في اللوائح الانتخابية؛ وواقع الحال مغاير تماما، لأن جل نساء القرية مسنات ولا يقدرن حتى على الحركة؛ فكيف لهن بالتنقل للمركز قصد محو الأمية وتعلم الطرز والخياطة؛ فهن يحتجن لمحو الجوع والفقر، ولتعلم أكل ما لذ وطاب إذا توفر لهن. والطامة الكبرى هي أن الرئيس وبعض الأعضاء في المجلس القروي اعتبروا أنفسهم فقراء ومحتاجين، وأسسوا تعاونيتين استفادت كل واحدة منهن من حوالي 50 مليون سنتيم لإنشاء ضيعتين نموذجيتان، الهدف منهما ــ بحسب ادعاء أصحابهما ــ هو تشغيل أبناء المنطقة وتوفير فرص الشغل للعاطلين منهم، لكن الحقيقة التي يلمسها الجميع على أرض الواقع هي أنهم استغلوا الوضع ليأكلوا مال الشعب، ويستغلوا إمكانيات الدولة لإنشاء مشاريع خاصة؛ لأن السكان المستقرين الذين قابلناهم لا يشتغل أحدهم ولو لنصف يوم بهاتين الضيعتين، ولا أحد منهم أكل حبة من منتوجهما الذي يوجه مباشرة للتسويق في طانطان والسمارة. وقد تمكن هؤلاء مؤخرا من استغلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مجددا، وبرمجوا شراء وسيلة نقل بمبلغ يفوق 150.000درهم لنقل المنتوجات من أجل تسويقها ووضع عائداتها في جيوبهم بذل استغلال هذا المبلغ لإنشاء مشروع يعود بالنفع على ساكنة الجماعة ككل، وليس على أناس لا يطئون أرض الجماعة إلا لزيارة ضيعاتهم أو خلال الحملات الانتخابية. والمصيبة أن أموال المبادرة غير مراقبة بالشكل الذي يسمح باكتشاف التلاعبات التي يقوم بها بعض المنتخبين والمسؤولين للالتفاف على القانون واستغلال أموال الشعب لمصالحهم الشخصية؛ وهذا ما يقع بالضبط في جماعة أبطيح التي ينطبق عليها: “مسؤولون في النعيم وسكان في الجحيم”.
جبر الضرر الجماعي حلم لم يتحقق
عندما انتهت هيأة الإنصاف والمصالحة من مهمتها بإعداد تقريرها النهائي، أقررت بأن العديد من المناطق، ومن بينها طانطان، ستستفيد من برنامج جبر الضرر الجماعي تعويضا على ما عانته خلال سنوات الجمر والرصاص. وباعتبار جماعة أبطيح من بين الجماعات التي عاشت ظلما وتهميشا كبيرين منذ الاستقلال، وكانت مسرحا لمعارك طاحنة بين القوات المسلحة الملكية وعناصر البوليساريو قضى فيها المئات بل الآلاف من أبناء المنطقة ومن الجنود المغاربة، كما تعرض العديد من أبناء المنطقة للموت وللإعاقة جراء مخلفات هذه الحرب من ألغام وذخيرة لم تنفجر آنذاك، غير أن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي تولى المهمة بعد الهيأة اختلطت عليه الأمور ولم يعرف كيف يطبق توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، وقام بتكوين لجان محلية أشرفت على تحديد المناطق المعنية بجبر الضرر الجماعي. وكباقي المدن، فقد عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها بطانطان تحت إشراف المجلس الموقر، وتم إقرار منطقة المسيد معنية بجبر الضرر الجماعي واستثنيت أبطيح من ذلك؛ ولا أحد يعرف السبب ولا المعايير التي اتبعتها اللجنة في هذا الموضوع. فحقيقة أن المسيد عرفت انتهاكات جسيمة، وبها مقابر جماعية شاهدة على ذلك، ولكن لسوء حظها أنها لم تستفد رغم إقرار اللجنة بحقها في ذلك، واستفادت جمعيات في مدينة طانطان من هذا البرنامج الذي يموله صندوق الإيداع والتدبير، وأقصيت جمعيات المسيد. أما أبطيح، فلا أحد أخذته الشفقة والرحمة بسكانها الذين يعيشون الفقر المدقع، والعديد منهم فقد ابنه أو أخاه أو أباه جراء الحرب أو بسبب الألغام؛ وبالتالي لم يتحقق حلم ساكنة أبطيح التي كانت تمني النفس بجبر ضرر سنوات الضياع والنسيان؛ فكانت الحسرة حسرتين: (حسرة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي لم تنصفهم، وحسرة جبر الضرر الجماعي الذي لم يشملهم)، وكان الظلم مضاعفا، ليبقى لساكنة هذه الجماعة أمل وحيد هو أن تأتي ريح عاتية وتعصف بهم ليموتوا شهداء ويتم إنصافهم في الآخرة بإدخالهم الجنة ماداموا لم ينصفوا في الدنيا.
نداء أخير
لقد حملنا سكان جماعة أبطيح الذين قابلناهم رسالة لا بد من تبليغها لمن يهمه الأمر؛ وهي أن كل شيء له نهاية، وسكان أبطيح ظلموا بما فيه الكفاية ونالوا نصيبهم من التهميش والإقصاء، وقد حان الوقت لكي يعاد لهم الاعتبار وينالوا حقهم من العناية والإنصاف. فالجماعة لا ينقصها سوى بعض الاهتمام وقليل من المروءة من المسؤولين الذين يجب أن يضعوا أنفسهم ولو لحظة واحدة مكان العشرات من السكان المحاصرين بين الفقر والجوع والألم وقلة الحيلة، ليكتشفوا أن من واجبهم أن يعطوا لهؤلاء حقوقهم كاملة، ويولوهم كامل اهتمامهم للنهوض بالجماعة وبشؤون ساكنتها التي لو وزعت عليهم ميزانيتها فردا فردا لعاشوا في نعيم ولما عرفوا الفقر ولا الحاجة؛ لأن عددهم قليل، وميزانية الجماعة مهمة، لكنها لا تستغل في الأمور التي يجب أن تستغل فيها، بل تذهب للجيوب خلسة وفي واضحة النهار. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.