ولأننا على أعتاب ولادة مجتمعية جديدة، فإنه لا يمكن فهم الحاضر إلا بالعودة إلى الماضي، ففي الماضي القريب لم يكن هناك مفهوم حقيقي لكلمة مواطن في دولة المخزن، بل كان و ما يزال المجتمع المغربي عبارة عن مجتمعات متراكبة، حسب تعبير و وصف عالم الاجتماع المغربي من أصول فرنسية بول باسكون، فهناك مجتمع دار المخزن المكون من عدة طبقات، العائلة الحاكمة و محيطها، بما فيه العائلات المخزنية العريقة في الجاه و النسب، ثم القواد و الباشوات و كبار التجار، و طبقة العلماء و الوجهاء..،و في أسفل السلم نجد طبقة العبيد و هي طبقة واسعة تضم أصنافا من العبيد،من نسل من جلبوا من جنوب الصحراء أو الذين أسروا في الحروب.و في المقابل، نجد مجتمع الخَمَّاسَّة، وهم الغالبية العظمى من الساكنة، و إذا كان المصطلح َالخَمَّاسَّ" يحيلنا على البادية. فذاك لأن البادية هي المغرب و المغرب هو البادية، حتى ولو هاجر الفلاح إلى المدينة فإنه لن يهجر عقلية الخماس و الشوال. وربما لأجل هذا كتب ريمي لوفو أطروحته القيمة في علم الاجتماع المغربي الحديث عن الفلاح المغربي المدافع عن العرش، الكتاب الذي كان ممنوعا من التداول في المغرب. فمن هم الخماسة الجدد؟و كيف تحولوا إلى من مجتمعَ خَمَّاسَّة جدد إلى مجتمع سنافر بشرية؟
الخَمَّاسَة الجدد
الخَمَّاس و الشوال و العزابة والعبد مصطلحات ورثناها عن آبائنا و أجدادنا، صحيح أنها لم تعد تستعمل لفظيا في حياتنا العامة اليومية، لكن أثرها المعنوي المؤثر في صناعة العقلية المغربية ما يزال راسخا. و إذا كان الرق قد انتهى إلا في دوائر محدودة في المغرب أو ما يمكن تسميته "النيو رق"أو الرق الاستعراضي البروتوكولي، بحيث ما يفتأ العبيد السود خدما للقصور بألوانهم السوداء و ملابسهم البيضاء و طقوسهم القديمة المخزنية، لدرجة أن الزعيم المناضل الكبير نيلسون مانديلا عندما زار المغرب عهد السلطان الحسن الثاني صعق صعقا لوجود العبيد بالقصر! و هو الذي كرس حياته من أجل الحرية و المساواة و القطع مع العبودية! و مهما يقال أنه قد تم التخفيف من الطقوس العبودية للإخوة المغاربة السود فإن المظاهر ما تزال هي هي، فهم ما ينفكون يتمرغون في الركوع و الاحتفاظ بتعاليم الأجداد الممخزنين بثيابهم البيضاء و طرابيشهم الحمراء و خاصة قفزاتهم الناصعة البياض لأن التعاليم تصر على أن لا تمس بشرتهم السوداء العبدية بشرة الأمراء و الشرفاء السامية!
و لقد كان الواحد إذا أراد ان يتقص من أحدهم قال أن أب أو جد فلان كان خَمَّاسَ عندنا او "هاذوك كانوا غير خماسة عند جدي" !فمن هو الخماس إذن و هل له امتدادات و تجليات معاصرة؟و الخماس باختصار عامل يتعاقد مع صاحب الأرض على العمل في أرضه حتى جني الغلة على أساس أن يأخذ من الغلة الخمس. إلى هنا قد يبدو الأمر شبه طبيعي! لأن الطبيعي هو أن يأخذ الخماس النصف و يصبح نصاصا، بينما النصف الآخر لصاحب الأرض.و لكنها قسمة ضيزى الهدف منها بقاء صاحب الأرض في عليائه فلا أحد يشاطره الغلة اللهم "تمارة"، أما المسألة الثانية و تتعلق بمجال عمل الخماس، فقد كانت تناط به كل مهمة صعبة وعرة و شاقة، أي أن صاحب الأرض كان "يحرث على الخماس حرثا" و لربما من هنا ورثنا تعبير "يحرث عليه" للدالة على القسوة و على المشاق الجسيمة و الاستغلال. و من غرائب الأرقام و الإحصائيات أن 20 من المغاربة يملكون 80%، بينما 80 % يمكلون فقط 20 %، و أظن أن هذه الإحصائيات تحتاج إلى تحيين لأن خط الفقر و تنامي ثروات علية القوم في اتساع دائم.
و يبقى دستور 2011 كأدل مثال سياسي على القسمة الضيزى و عقلية السيد و الخماس، فالشعب و إن كان على الورق مصدر السلطة فهو في الحقيقة لا يملك حلا و لا عقدا. و الدليل على ذلك و كما جاء في دستور 2011، أنه لو فرضنا جدلا أن المواطنين المغاربة رفقة الإخوة الخماسة الجدد صوتوا على حزب (س) بنسبة مثلا مثلا 98.5% و هذه نسبة جد معقولة في المغرب 2011 أو حتى 100% آملين أن يصبح أمين عام الحزب المصوت عليه لتولي رئاسة الحكومة السعيدة، فإنهم و مع ذلك لن يستطيعوا أن يوصلوا السيد الأمين العام مِنَ الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب".و الحكمة في حرف مِنَ ؟ و ما أدراك ما مِنَ – مِنَ جُوِلي مِنَ -؟ بمعنى أن المُنتخِب يقوم بنصف انتخاب لا غير حيث يوصل الحزب الفائز إلى رئاسة الحكومة من دون أن يستطيع أن يحسم في اسم رئيس الحكومة! و طبعا سيقول قائل بأن العرف و العادة جرتا بأن يتولى أمين عام الحزب الحاكم الرئاسة، و نجيبهم بدورنا بأنه طالما القضية كذلك فلماذا لم يكلف السيد المعتصم أو المنوني مشكورين و يضيفان هذه الجملة لإزالة كل التباس و ريبة من الأذهان "و يكملوا خيرهم و جميلهم بإضافتها ؟ اللهم إذا كان الأمر يتعلق بالسهو كما تعلق من قبل بخطأ مطبعي فهذا أمر قد يجبره سجدتي سهو دستوريتين لترقيع الفريضة الدستورية و ما أكثر التراقيع الدستورية في دستور 2011.
و لكنه المخزن الذي مهما ادعى الديمقراطية و أنشد القصائد في مدحها و التغزل بها، لن ينسى أن الذي أمامه هو مجرد خماس . فكيف للخماسة أن يفرضوا إرادتهم على المخزن؟ هذا اللي عمرو ما تحلموا به يا الخماسة!طبعا كان هذا مجرد نموذج دستوري و إلا الأمثلة لا حصر لها، ناهيك عن تلك المحشوة في الأعراف المخزنية غير المكتوبة.و كلها نماذج دالة على أن الخَمَّاسَ لا يملك من أمره في حقيقة الواقع شيئا لأن الوصاية ما تزال مسلطة عليه!
تحول الخَمَّاسَة إلى سنافر
من دون شك أن عددا كبيرا منا يتذكر تلك الرسوم المتحركة السنافر، و التي تصور يوميات مجتمع من المخلوقات القزمية، لها حياة تقترب كثيرا من الإنسان إن لم نقل أنها مطابقة له ! ولصغر لحجمها فالإنسان المجاور لها لا ينتبه لوجودها.الشيء نفسه يكاد ينطبق على الخَمَّاسَ المغربي الجديد المشابه إلى حد كبير للسنافر من وجهة نظر الأسياد الجدد، أو بتعبير اليعقوبي زوج عمة الملك الذي أطلق النار على الشرطي السنفور حيث اعتبره مجرد "ذبانة"، و الحال أن هذا أبلغ تصوير و أصدقه على مدى سنفرة المجتمع الخماسي، فهم ذباب يجوز "نشهم" و قتهلم و دهسهم بالسيارة كما فعلت ابنة المحجوب بن الصديق عندما دهست بسيارتها الفخمة مجموعة من العمال السنافر غير آبهة بهم ! و الأمثلة كثيرة...و كلها تؤكد أن الأعيان الجدد لا ينظرون إلى الخماس المغربي إلا نظرة سنفورية، و أزعم أن السادة الجدد يرون الخماس على أنه كائن سنفوري قزمي، حتى و لو كان طول الخماس 190 سنتمر و وزنه 120كلغ فأكيد أنهم يره في صورة سنفور قد لا يتجاوز طوله 20 سنتمر كأقصى تقدير! لذا، لنا أن نتفهم لماذا تسول لهم أنفسهم دوس الإخوة الخماسة السنافر بالسيارة و إطلاق النار عليهم بدم بارد و في شهر الصيام والقيام كما فعل اليعقوبي.و لأنك سنفور فدمك شبه مهدور. وأذكر أنه في حدود 2004 كانا شاب و شابة من أبناء الأعيان يعربدون بسياراتهم الأنيقة قرب مدخل كلية الآداب بوجدة يتسلون في سباق على الطريقة الأمريكية، فلم ينتبهوا لعدد من الطلبة السنافر، فما كان إلا أن دهستهم سيارة من سيارات السباق، و مات من مات و جرح من جرح، و طبعا لا تسألوا عن مصير السادة الجناة المحترمين الذين يعيشون معززين مكرمين! و كم من المئات و ربما الآلاف من السنافر التي لقت حتفها بهذه الطريقة "الذبابية" لأن ذنبهم أنهم سنافر مخلوقات مجهرية لا تُرى!قد يقول قائل أن الغنى يطغي صاحبه و يجعله فوق القانون بنفوذه و أمواله، هذه صحيح لكن مشكلة السادة عندنا أنهم لا يكتفون بالتكبر و الاستعلاء، و لكن عددا معتبرا منهم يتلذذ باحتقار و ازدراء الخماسة الجدد، و يجد متعة في ذلك ما بعدها متعة.و طبعا نذكر حفل ابنة شهبندر العقار الذي أقام لابنته حفلا أسطوريا منذ أقل من سنتين بمراكش كلف الملايير الممليرة،حيث لم يكتف بالتلذذ باحتقار الخماس و السنفور المغربيين، بل استقدم طاقما مكونا من أزيد 200 نادلا و نادلة بالعملة الصعب و فارضا أن يكونوا من الشقر و الأعين الزرق أو الخضر، حتى يشفي من غروره و مرضه الاستكباري، و بذلك يكتمل سروره المرضي برؤية الأبيض الأشقر يخدم و يسخر عند شهبندر العقار.
إن مجتمع السنافر البشرية المغربية شيء واقعي و ليست مبالغة إنشائية، فما معنى أن يتقاضى بعض المتقاعدين و أراملهم 200 درهم شهريا؟علما أن عددا منهم لم يرزق الولد الذي قد يعينه على مكابدة شظف العيش!أما الذين لا تقاعد لهم من أساسه فهذه فئة عريضة تنمي إلى طبقة السنافر أيضا.و يكفي مقارنة مداخيلهم الميكروسكوبية مع الدخل الشهري لمدير اتصالات المغرب أو مع مدرب الأسود أو غيرها من الأجور الشهرية المنتفخة على الآخر! و لنا أن نتصور إذا حدث و مرض سنفور من السنافر و تطلب الأمر إجراء عملية جراحية مستعجلة من دون أدنى تأخير فماذا سيكون مصيره؟طبعا و في أقصى درجات التفاؤل و المعاملة البشرية الرحيمة بهم سيطلب منه أن ينتظر8 أشهر أو ما يناهز ذلك! و لا يهم هل يبقى على قدميه يقاوم إلى أن يأتي اليوم الموعود لإجراء العملية الجراحية المنتظرة؟أم يسبق عليه الأجل فيكون تحت الثرى! لا يهم تعبه و أنينه و فقره ومشاكله و آهاته ...كل ذلك لا يهم فحياته من الأساس غير ذات أهمية، و أمثاله من السنافر يعدون بالملايين. لذلك عندما يموت لا يأبه له أو يبكي عليه أحد، اللهم بقية جيرانه من السنافر الذين يتدافعون بفقرهم المدقع لكي يواروا أخيهم السنفور التراب ليرتاح من حياة السنفرة. و الحال أن هذه ليست صورة من صنع الخيال، لأننا ندعو من يريد أن يرى بأم عينه السنافر البشرية أن يزور أحزمة الفقر و القهر، مركزا على الأرامل و الشيوخ ليرى الغرائب و العجائب، بل لا تتجشموا عناء الذهاب إلى المجهول، فقط اسألوا تلك المرأة عاملة النظافة في المقهى الذي تقضون فيه ساعات طوال في الدردشة يمينا و شمالا و الجدل اللا منتهي، والتي تأتي الخامسة صباحا و تعاود في 00 ليلا و تتقاضى في الشهر 700 درهم واسألوا كم لها من الأبناء؟ أو السنافر و عن زوجها المريض؟ و مبلغ كراء الجحر الذي يؤويهم ؟و عن تكاليف الحياة السنفورية؟ و اسألوهم متى آخر مرة زارهم اللحم و السمك؟...أكيد لم ننتبه لها لأننا لا نكاد نراها أو نأبه لها ولأمثالها! و من يدافع و ينافح عنها و عنهم؟ و من لهم غير الله تعالى و نعم المعين.
إن مسألتي التخماس الجديدة و السنفرة المجتمعية ليستا نتاج الفقر المادي وتفاهة الدخل فقط، و إن كان هذا أحد أهم معالم الظاهرة. بيد أنها أطروحة سياسية بدعامة اجتماعية مخزنية، تعيد تقسيم المجتمع إلى مجتمعات متراكب، و إلا فإن هناك عدد من الخماسة الجدد المنتمين للطبقة المتوسطة و حتى الثرية و لكنهم لا يملكون الهالة الاجتماعية المخزنية ما يدفعهم إلى ولوج الشأن السياسي سواء عبر الحصول على مقعد داخل البرلمان أو رئاسة مجلس قروي أو بلدي حتى يلتحقوا بصف الكبار و مجتمعهم.أو عبر آلية التصاهر و تلقيح نسلهم الخماسي بنسل من طبقة الأعيان و العائلات البارزة، حتى لا يُحتَقروا"و لا "يحُكَروا" و لا يُرَى إليهم على أنهم خماسة و سنافر!